مرت ستون عاما على انتحار ألان تورينغ. وعلى الرغم من أنه كان مجهولا تماما للعامة في حياته، أصبح يشتهر اليوم بكونه أحد رواد علوم الحاسب، وشخصا أنهكته سلوكيات خمسينيات القرن الماضي بسبب غرائزه الجنسية.
أما الأختان باربرا ماهر وماريا سمرسكايل فيتذكرانه كصديق للعائلة.
لم يكن موت تورينغ مسموما بمادة السيانيد عام 1954 حادثا جللا، فقصته مع زملائه الذين حطموا شفرات إنيغما الألمانية كانت لا تزال سرا في ذلك الوقت.
وكتبت صحيفة التايمز عن وفاته في فقرتين، تقول فيهما إنه "ساعد في تطوير عقل إلكتروني قال إنه حل في عدة أسابيع واحدة من أعقد مسائل الرياضيات منذ القرن الثامن عشر".
وأشارت الصحيفة إلى عمله على جهاز الحوسبة الأوتوماتيكية، ثم نشرت بعد ذلك بعدة أيام نعيا له.
وشارك تورينغ في برنامجين إذاعيين على المحطة الثالثة لـ بي بي سي، إلا أنهما فقدا للأسف من أرشيفات الهيئة.
وبزغ اسم تورينغ عام 1983، عندما نشر أندرو هودجز سيرته التي ألهمت العمل المسرحي "فك الشفرة". وعُرضت المسرحية على مسرح برودواي في لندن، ثم حُولت لاحقا إلى عمل تليفزيوني. وهنا تشكلت صورة تورينغ للعامة كعبقري معذب ومثلي جنسيا.
لكن قبل ذلك بكثير، عرفته أسرة غرينبومس، وبقيت ذكراه حاضرة لدى الأختين باربرا وماريا.
الأختين غرينبام
الأختين غرينبام عرفنه وهن طفلتين كمريض يعالجه أبوهما، وكصديق للعائلة
ابنتا الطبيب
وتعرفت الأختان على تورينغ كمريض لدى والدهما المعالج النفسي، فرانز غرينبام، في خريف عام 1952. وتقول باربرا إن والدهما "كان يهوديا فر من برلين في الوقت المناسب، واستقر عام 1939 في مقاطعة مانشيستر، حيث أسس عملا خاصا به في ضاحية ديدسبيري بالمقاطعة".
وكانت أختها الصغري، ماريا، تبلغ من العمر سبع سنوات عندما قابلت تورينغ لأول مرة. وتقول: "لم يكن من الغريب قدوم المرضى لمنزل العائلة، إلا أنه لم يكن أمرا اعتياديا أيضا. وكنت صغيرة في السن حينذاك، لكنني توقعت أن يكون صديقا لوالدي بسبب تكرر زياراته".
وتقول باربرا إن صديقا لتورينغ اقترح عليه زيارة غرينبام، كشخص يمكنه التعامل مع مشاكله.
وفي مارس/آذار عام 1952، وأثناء عمل تورينغ في جامعة مانشيستر، حوكم بتهمة خرق اللياقة، إذ اكتشفت الشرطة علاقته بتلميذه العشريني أرنولد موراي.
وحتى يتجنب دخول السجن، وافق تورينغ على الخضوع لجرعات من هورمون الاستروجين الذي من شأنه أن يكبح طاقته الجنسية، كما اختفى موراي من حياته حتى توفي عام 1989.
وتقول باربرا إنها كانت على علم بمثليته، لكنها لم تُعِرْ ذلك اهتماما. "فوالدنا كان شخصا متحررا وواسع الأفق، وظن أن بإمكانه مساعدة تورينغ في التصالح مع نفسه كما هو".
وترى ماريا أن نظرتها كانت بسيطة كطفلة. "فكنت أرى تورينغ شخصا ودودا يهتم دائما بما أفعل. كان يزورنا للعشاء، وكنت عادة ما أكون جالسة على الأرض ألعب إحدى ألعاب الأوراق، وكان هو يجلس إلى جواري على السجادة ويتحدث إلي، لدرجة أنني أصبحت شديدة الارتباط به".
وما زالت ماريا تحتفظ بخطاب أرسله لها ألان في صيف 1953، قبل أقل من عام من وفاته يشرح لها فيه كيف تتعامل مع اللعبة. وعلى الرغم من قولها إنها لم تكن "تستطيع فهم ما ورد في الخطاب، لكن بالنسبة لطفلة عمرها ثمان سنوات، كان وصول خطاب كهذا من شخص بالغ يعد أمرا مميزا".
خطاب تورينغ إلى ماريا
يقدم الخطاب درسا في المنطق من عبقري في الرياضيات، مكتوب بخط يده
غريب الأطوار
وتقول باربرا إن تورينغ كان شخصية مثيرة للاهتمام "لكنه كان غريب الأطوار. كان يخجل من نفسه. كانت ملابسه غير مهندمة. وكان يتلعثم في حديثه بشكل كبير. كما كان يقضم أظافره أيضا، وهو ما جعلنا نعتقد أنه كانت لديه مشاكل نفسية".
وأضافت: "لكن من الواضح أنه كان يستمتع بزيارة المنزل وكونه جزءا من العائلة. وأظن أن والدي أُعجب بعقله العلمي، وربما انسجما لهذا السبب".
وتتذكر باربرا انضمام تورينغ لرحلة مع العائلة لمدة يوم قرب شاطئ سانت آنز، لكنها انتهت بطريقة سيئة.
ففي ذلك اليوم، قابل تورينغ عرافة ودخل خيمتها ليستمع إلى نبوءاتها.
وتقول باربرا إن تورينغ خرج من خيمة العرافة "وقد شحب وجهه وارتعد وبدت عليه علامات الخوف. فهناك شيء ما حدث، إلا أنه لم يخبرنا بما قالته العرافة، وبدا غير سعيد. أعتقد أنها المرة الأخيرة التي رأيناه فيها قبل سماعنا بانتحاره".
وتتذكر ماريا سماعها بالمأساة، فتقول "كنت شديدة الحزن عندما أخبرتني والدتي بوفاته. كانت هذه أول تجربة لوفاة شخص مقرب مني".
ألان تورينغ
كانت سيرة ألان محتمة الظهور للعامة، كونه أحد رموز الحوسبة وحقوق المثليين
وانتهت التحقيقات إلى أن تورينغ قتل نفسه باستخدام السيانيد، وكانت هناك بقايا تفاحة بجانب سريره، لكنها لم تُحلل لتثبت ما قيل عن أنها قد تكون مسممة.
وهناك تفسير بديل، أنه استنشق بعض السيانيد بطريق الخطأ أثناء تجربة كيميائية. لكن المؤلف الأول لسيرة تورينغ، أندرو هودجيز، فيرى أن الحكم كان دقيقا.
وفي الأعوام الـ 31 التي أعقبت نشر سيرة تورينغ، تغير وضعه تماما. ويقول هودجيز: "في وقت النشر، رفض كل الناشرين الكتاب. وقالوا إنه لن يكون محل اهتمام أحد. أنا بالطبع فخور بالكتاب الذي عرّف الكثير من القراء به".
لكن هودجيز يرى أن سببين كانا سيعرفان العامة على تورينغ في كل الأحوال، "فالحواسب الآن تسيطر على حياتنا بشكل لم يكن تورينغ نفسه ليتخيله، وازداد سعي الناس لمعرفة الطريق التي تطورت بها هذه الحواسب، وهي ما لا يمكن إغفال سيرة ألان تورينغ فيها".
والسبب الآخر هو تغير سلوك الناس تجاه المثلية الجنسية، "فقد بدأت بحثي عام 1977 بعد عقد من إقرار المثلية الجنسية في انجلترا وويلز. وفي هذا الوقت، لم يستسغ البعض فكرة المثلية الجنسية لدى تورينغ. فمنذ 60 عاما، خضع لحقن كيميائي لجريمة كونه مثلي جنسيا، وهو ما يعتبر أمرا صادما الآن".
وأضاف هودجيز: "كان سيحب أن يشهد التطورات بشأن حقوق المثليين في المساواة. كما أنه حصل على عفو ملكي العام الماضي".
جميع الحقوق محفوظة للأقباط متحدون © 2004 - 2011 www.copts-united.com