بقلم - فاروق عطية
نحن الآن في شهر رمضان, شهر الصيام وكل عام وأحبابي وأصدقائي الصائمين منهم والمفطرين بألف صحة وسلام. ولرمضان عندي الكثير من الذكريات التي أحب أن تشاركوني فيها. ففي الطفولة ومرحلة الدراسة الابتدائية (بداية أربعينيات القرن الماضي) كانت الأضواء ذات الألوان الجميلة المبهجة المعلقة علي مآذن المساجد وعلي مداخل الشوارع والبيوت تخطف أبصارنا وتبهر أنظارنا
نتجمع كأطفال الشارع مع بعض, إميل وحسن وعلي وسيد وجورج وحلمي ومصطغي وأنا, ومعنا الفوانيس بداخلها شموع موقدة بعد الأفطار ونمر علي بيوت بعضنا طارقين الأبواب ونحن ننشد: إدونا العادة ألله خليكم, وكل بيت يعطينا حاجة, سوداني, بندق, لوز, جوز
ملبس أو قطع قمر الدين وبعد الجولة نُقسّم ما حصلنا عليه من هبات. الحياة كانت بسيطة وحلوة وكل شيئ موجود في الأسواق ومتاح لكل البيوت, ولا يحتاج الصائمون لشراء شيئ جديد وخاص برمضان كما يحدث الآن. ورغم أن رمضان كان يأتي في عز الحر ودرجة الحرارة لا تقل في الصعيد عن 45 درجة مائوية لكني لم ألحظ يوما نرفزة أو خناقات بين الناس تعللا بالحر والصيام كما يحدث الآن. وكانت الطيبة والسماحة تملأ الوجوه ولم يحدث يوما أن اعترض صائم شخصا يأكل في مطعم أو حتي في الطريق, وإن كنا نحن المسيحيون نحاول قدر الإمكان مراعاة شعور جيراننا الصائمين فلا يظهر أحدنا شاربا أو آكلا أمامهم.
ذات يوم حدثت وعكة صحية لجارتنا للحاجة أم مصطفي وكعادة الصعايدة عند زيارة جار مريض لا بد من بعض الفواكه والمشروبات كهدية, وبالطبع أنا من يحمل هذه الهدية في صحبة أمي, وبعد الترحيب ينا إذ بصاحبة الدار تحضر لنا بعض العصائر لنشربها, حاولنا الاعتذار مراعاة لشعورهم كصائمين ولكن السيدة أصرت قائلة والابتسامة تملأ وجهها: نحن صائمون فريضة فما ذنبكم أنتم لتصوموا بجوارنا, نحن نسعد حين نراكم تأكلون وتشربون ولا يضيرنا ذلك, وأتبعت ذلك بالنداء علي ابنها مصطفي الذي كان في حجرة نومه قائلة: واد يا مطصفي هات طبق الكنافة من النملية (لم يكن هناك ثلاجات في البيوت) وتعالي صاحبك عندنا..وأصرت مع القسم بأغلظ الأيمان بأن لابد لنا من أكل الكنافة.
وفي فترة الفتوة ومرحلة الدراسة الثانوية تشعبت صداقاتنا وامتدت لتشمل زملاء الدراسة دون تفرقة أو حتي معرفة من منا مسلم ومن مسيحي. وفي ليالي رمضان كانت بعض الأسر الكبيرة كعائلة رفاعة الطهطاوي أوعائلة عبد الآخر أوعائلة عنبر يفيمون ليالي ينشد فيها القرآن والموشحات الدينية في سرادقات بجوار دورهم. كان الشيخ عبد الباسط عبد الصمد في ذلك الوقت في بداية العشرينات من عمره ولازال طاليا أزهريا ولم يكن بعد قد اشتهر إلا في موطنه (مديرية قنا) وبعض مدن الصعيد كمدينتنا. كان الشيخ عبد الباسط هو المقرئ الدائم لعائلة عنبر (الوفدية) وكنا مسحورين بصوته العذب الرخيم, بعد أن بنتهي من تلاوة القرآن ينشد بعض التواشيح الدينية والمدائح ثم يعرج علي أعاني أم كلثوم وعبد الوهاب وكنا نتحلق حوله لنردد معه الأغنيات.
أما عائلة عبد الآخر (الدستورية) كان يصدح في لياليها الشيخ سيد النقشبندي. كان الشيج سيد في ذلك الوقت في الثلاثينات من عمره وكان مشهورا عندنا باسم سيد الماواردي, وقد انتقلت أسرته من قرية دميرة بالدقهلية إلي طهطا وهو في العاشرة تفريبا مع أمه وأخته لواحظ وزوج أمه الشيخ الماوردي الذي كان يمتهن تجارة الماورد والزيوت العطرية والدهانات ويقوم بتوزيعها بمدن الصعيد, وكان منزله مجاورا لمنزلنا بشارع عنبر مما أوجد صداقة أسرية بيننا وبينهم. كان الشيخ سيد الماوردي(النقشبندي) يقرأ القرآن وينشد التواشيح والابتهالات بسرادق عائلة عيد الآخر, وفي النهاية يعزف علي العود عزفا مميزا لا يجاريه أحد في روعته خاصة حين يصدح بأغاني فريد الآطرش "تعالي سلم" أو "نورة" وكنا نردد معه ككورس. وكثيرا ما كنا كأصدقاء وجيران ما نذهب إلي منزله فيعزف لنا أرق الألحان, وفي عام 1955 انتقل الشيخ سيد وأسرته إلي طنطا.
وفي بداية السبعينيات بعد النكسة وتحطيم مصنعنا بالسويس تم انتداب البعض منا للمساعدة في تشغيل مصنع الأسمدة الأزوتية بحلوان ( التابع لشركة الكوك ). في هذه الأيام ربما لما تعرضت له مصر من انتكاسات, بدأ التغير في سلوكيات الناس والاهتمام بمظاهر التدين أكثر من التدين نفسه. كنت أشرف مع زميل لي علي قطاع المعامل التحليلية وقسّمنا العمل بيننا علي فترتبن, احدنا من الثامنة صباحا حتي الثامنة مساءا, والآخر من الثامنة مساء حتي الثامنة مساءأ ويتغير الوضع أسبوعيا. وكان يعمل تحت اشرافنا مجموعة من الكيميائيين حديثي التخرج وعدد من المحللين البعض منهم ذوي خبرة جاءوا معنا منتدبين من شركتنا والباقين حديثي التعيين. في أحد أيام رمضان وكانت مسئؤوليتي مسائية, دخلت فجأة إلي حجرة جانبية خاصة بأحد الأجهزة التحليلية (كروماتوجراف) فوجدت أحد المحللين مختبئا خلف الجهاز يأكل سندوتشا, وحين رآني اضطرب ورجاني ألا أخبر الزملاء بما رأيت, وتكرر الأمر مع فردين آخرين, وقبل موعد الإفطار تحلق الجميع حول مائدة الطعام انتظارا لمدفع الإفطار وكنت أنظر لكل منهم وأنا أبتسم.
وفي الأيام الأخيرة لشهر رمضان وزعت الشركة علي العاملين هدية العيد وهي عبارة هن شيكارة بها: 2 كجم لحم بقري, 5 كحم دقيق, 3 كجم سكر, 5 كجم أرز, 2 كجم مكرونة و 200 جم شاي. كنت أسكن في شارع مدكور المتفرع من شارع الهرم, وعند عودتي للمسكن فوجئنا بتظاهرة كبيرة لطلبة جامعة القاهرة مطالبين بالحرب وانهاء عار النكسة والمظاهرة تملأ ميدان الجيزة فتوقفت السيارة ولم يستطع السائق الدخول لشارع الهرم فاضطررت للنزول بميدان الجبزة مع ما أحمل وجلست علي إحدي المقاهي ساعات طويلة حتي أنني فكرت من التعب أن أترك شيكارتي الثقيلة وأعود لمنزلي سيرا علي الأقدام, وحين انتهت التظاهرات أخذت تاكسي للمنزل وأنا ألعن التعب والهدايا والتظاهرات.
وفي شهر رمضان عام 2010 في سابقة تعد هي الأولى من نوعها شنّت وزارة الداخلية المصرية حملة أمنية تستهدف توقيف
المجاهرين بالافطار في نهار رمضان. في محافظة أسوان ألقت الشرطة المصرية القبض على 150 مصرياً وأودعتهم السجن وحررت لهم محاضر جنحة الجهر بالافطار في نهار رمضان, وفي مدينة الغردقة على ساحل البحر الأحمر ألقت الشرطة المصرية القبض على العديد من المصريين خلال إفطارهم في نهار رمضان، وكشفت المعلومات أن محافظ البحر الأحمر أصدر قراراً بإغلاق المقاهي والمطاعم في نهار رمضان علماً بأن هذه المحافظة من المحافظات السياحية. كما ألقت مباحث طلخا بمحافظة الدقهلية القبض على سبعة شباب يجاهرون بالافطار في نهار رمضان ويدخنون السجائر في الشارع العام، وحرّر لهم رئيس مباحث طلخا محضراً بالواقعة وتم عرضهم على النيابة التي أمرت بالافراج عنهم بكفالة 500 جنيه. http://www.alarabiya.net/articles/2009/09/07/84238.html
بالرغم من سقوط الإخوان بثورة 30 يونيو2013, لكن يبدو أنه قد تشكل تنظيم للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في مصرنا وأول فروعه كانت مباحث الداخلية برئاسة رئيس المباحث إبراهيم النجار ومعاون المباحث لقسم الدخيلة محمد البنهاوي، وكانت أولى عمليات التنظيم تحطيم ثلاث مقاهي بمنطقة الدخيلة أمام المحكمة، مملوكة للمواطنين "محمد أحمد عبد السلام"، و"صديق يس"، و"إميل صادق" الذين فوجئوا في الثانية والنصف ظهرًا يوم الإثنين 7 يوليو 2014. بفيام المذكوران على رأس قوة أمنية بتكسير وتحطيم المقاهي، بحجة فتحها في نهار رمضان, فكيف نأمل جميعنا بأن يسود القانون ويطبق على الجميع ويحطمه هؤلاء.
http://new.elfagr.org/Detail.aspx?nwsId=637207#
كنت في زيارة إبني بمدينة الغردقة, وحيث أنني أعشق الأسماك وجواهر البحر طلبت من إبني أن نذهب لمطعم أسماك الميناء حيث توجد أشهي أنواع الأسماك, وحين دلفنا للمطعم, استقبلنا النادل بالترحاب, سألته إن كان يضيره أن نتناول الغذاء لديهم خاصة نحن في رمضان, أجابني مرحبا: مطعمنا مطعم سياحي يرحب بزبائنه في أي وقت وتفضلوا بالهناء. وكان بالمطعم العديد من الزبائن منهم المصريين ومنهم السواح الزائرين. جلسنا نحتسي البيرة المثلجة ونلتقم السلطات حتي تُعد لنا الأسماك
وفجأة إنقض علينا بعض الضباط ومجموعة من الجنود المدججين بالأسلحة وانهالوا ضربا وصفعا علي بعض الزباين منددين بمخالفتهم التعليمات بعدم الجهر بالإفطار في رمضان. وحين اقترب أحد الضباط من طاولتنا صحت فيه قائلا بالإنجليوية: توقف عندك ولا تقترب, أنا لست مصريا, أنا سائح كندي ويمكنني التسبب في وقفك عن العمل ولوحت له بباسبوري الكندي فتوقف دون أن ينبث ببنت شفة, واستيقظت من نومي أتصبب عرقا من شدة الانفعال وأنا ألعن اليوم الذي جعلني أتنكر لجنسيتي المصرية التي أعشقها حتي أتقي سفالة السفهاء.
http://www.youtube.com/watch?v=rjXcMA8Qssg
جميع الحقوق محفوظة للأقباط متحدون © 2004 - 2011 www.copts-united.com