بقلم د. رفعت السعيد
قد يبدو مثيرا للدهشة أن مثلى ظل لسنوات يبحث عن النص الأصلى لكتاب طه حسين «فى الشعر الجاهلى» أقصد الطبعة الأولى من الكتاب والتى طبعت فى مطبعة دار الكتب المصرية عام ١٩٢٦ فأثارت ضجيجا وصخبا أجبر صاحب الكتاب إلى بعض من تراجع ثم عاود نشره باسم «الشعر الجاهلى» بعد أن استبعد كثيرا مما أغضب المتشددين من متأسلمى زمانه.
وأخيرا عثرت على الكتاب بنصه الأصلى الكامل ضمن مجلد باليونانية أصدره الدكتور كرياكو نيقولا، الأستاذ بجامعة أثينا العريقة. والدكتور كرياكو يمكن القول إنه مصرى – يونانى كثمرة للعيش اليونانى المشترك فى الأعماق المصرية. درس الفلسفة الإسلامية ليدرسها فى جامعة أثينا وأصدر وترجم عديدا من الكتب والدراسات عن الفلسفة الإسلامية وتاريخ الإسلام والصراع ضد التأسلم.
وكتابه الأخير «نظرية طه حسين فى الشعر الجاهلى» صدر عن مركز الدراسات الإسلامية والعربية والتركية بجامعة أثينا الذى يرأسه أستاذ ذائع الصيت فى مجال الاستشراق هو د. يانوس مازيس. والكتاب الذى يأتى فى ٤٥٠ صفحة يتضمن فى قلبه نسخة كاملة باللغة العربية لكتاب «فى الشعر الجاهلى». ولأن النسخة الأصلية أصبحت نادرة وربما يصعب العثور عليها كما كانت فى الطبعة الأولى فإن القارئ يسرع متجاوزا مئات من الصفحات باللغة اليونانية الغريبة المذاق، ليتوقف أمام الكلمات الساخنة التى أقضت مضاجع كثيرة عندما أتت على لسان طه حسين. والكتاب (١٨٤ صفحة) يحتاج إلى عديد من الصفحات المتأملة فى كلمات حادة كسكين لكنها متقنة بحيث لا يستطيع خصم أن يمسك بها.
ولعل ما أغضب كثيرين أن طه حسين كتب فى الأسطر الأولى للتمهيد وكأنه يخرج لهم لسانه تهكما «أكاد أثق بأن فريقا من الناس سيلقونه ساخطين عليه رغم أننى قد أذعته قبل اليوم حيث تحدثت به إلى طلابى فى الجامعة وليس سرا ما تتحدث به إلى مائتين»، وهكذا جعل الساخطين عليه يرفضون الكتاب ويرفضون أيضا أن يبقى صاحبه فى الجامعة. ويمضى طه حسين «وأنا مطمئن إلى أن هذا البحث وإن أسخط قوما فسيرضى هذه الطائفة القليلة من المستنيرين الذين هم فى حقيقة الأمر عدة المستقبل وقوام النهضة الحديثة وذخر الأدب الجديد (ص١)..
وبعد استمتاع ما بعده استمتاع نأتى إلى خاتمة الكتاب ونقرأ «أن الذين يقرأون هذا الكتاب قد يفرغون من قراءته وفى نفوسهم شىء من الأثر المؤلم لهذا الشك الأدبى الذى تردد فى كل مكان من الكتاب، وقد يشعرون مخطئين أو مصيبين بأننا نتعمد الهدم تعمدا، ونقصد إليه فى غير رفق ولا لين وقد يتخوفون من عواقب هذا الهدم على الأدب العربى عامة وعلى القرآن الذى يتصل به هذا الأدب خاصة».
ذلك أن طه حسين أشاع فى كل سطور كتابه مناخا من الشك فى مدى صحة النصوص وصحة نسبتها لمن قيل إنهم أصحابها، فجعل الكثيرين يسخطون على الكتاب ليس خوفا على الشعر الجاهلى وإنما خوفاً من مبدأ الشك فى صحة النص وفزعا من ضرورة إعمال العقل فى كل نص بحيث يصبح هذا العقل معيارا لمدى صحة النصوص
وربما من أجل هذا الكتاب بالذات منحت جامعة أثينا بعد صدوره الدكتوراه الفخرية لطه حسين وكان أحد ثلاثة نالوها حتى الآن. وليس أمامنا إلا أن نتوجه بالشكر للدكتور كرياكو الذى حلل الكتاب وسطوره باللغة اليونانية، متمنين أن يتاح هذا النص الأصلى للقارئ عبر مكتبة الأسرة فيكون سبيلا لإثارة نغمات جديدة من نزعات الشك المصحوب بإعمال العقل.. فلا نقبل إلا ما يقبله العقل.. أما غير المعقول فلم بعد يلزمنا لأنه يغرس فى نفوس أجيالنا الشابة إمكانية قبول ما لا يقبله العقل والعلم، فنكون كما نحن الآن ندور فى حلقة مفرغة من الشك الضرورى واليقين المستحيل.
نقلآ عن المصري اليوم
جميع الحقوق محفوظة للأقباط متحدون © 2004 - 2011 www.copts-united.com