في الوقت الذي كان فيه الأستاذ هيكل يدخل مكتبه في جريدة «الأهرام» لأول مرة بعد 40 عاما، توقفت سيارة «كاديلاك» قديمة فخمة في الشارع الضيق الموصل من عشش الترجمان إلى شارع الصحافة والذي يمر بالضبط بجوار مبنى «الأهرام». الشارع مظلم والسيارة أطفأت كل أنوارها. بعد لحظات ظهر ضابط شرطة برتبة رائد وبيده مصباح كهربي يعمل بالبطارية، اقترب من قائد السيارة وقال له: أنت تقف في الممنوع يا سيدي.. من فضلك ابحث عن مكان مسموح فيه بالوقوف. رد الرجل بابتسامة خفيفة: نعم كانت هذه هي التهمة التي توجهها لي الإمبريالية.. الوقوف في الممنوع، السير في الممنوع، العمل على تحقيقي أحلاما ممنوعة على الشعب المصري.. اطمئن سأنصرف فورا بعد أن اطمأننت على الإعلام في جريدة «الأهرام».. الحمد لله..
الإجابة أشعرت الضابط الشاب بالقلق فقال: هل لي أن أطلع على أوراقك يا سيدي.. رخصة السيارة ورخصة القيادة ورقمك القومي.
قال الرجل: صدقني.. لم يحدث أن طلب مني أحد هذه الأوراق من قبل.. المدهش أنك حتى الآن لم تتعرف على صوتي ولا حتى على ملامح وجهي.
اقترب الضابط بالمصباح اليدوي من وجهه ليتعرف على ملامحه، اللحظات التالية لا يمكن وصفها، كان قائد السيارة هو الزعيم جمال عبد الناصر. ارتجف جسم الضابط وهو يقول: أهلا يا سيدي الرئيس.. أنا آسف لو كنت ضايقتك.
قال الرجل: لا بأس.. أنت تقوم بواجبك.
قال الضابط: هل أفهم من ذلك أنك عدت للحياة؟
فقال عبد الناصر: صدقني لا أعرف.
قال ذلك وانطلق بالسيارة مغادرا المكان. في نفس الليلة وصلت إلى وزارة الداخلية تقارير كثيرة من الكمائن الثابتة والمتحركة ومن أفراد الخدمة السرية أن السيارة الكاديلاك الفخمة القديمة التي يقودها جمال عبد الناصر، شوهدت بجوار جريدة «الجمهورية»، وبجوار جرائد أخرى بعضها تابع للقطاع الخاص، ثم شوهد وهو في طريقه لمدينة الإنتاج الإعلامي، وقالت بعض التقارير إن عددا من مقدمي البرامج المعروفين قابلوه ورحبوا به بشدة. ولكن الملاحظ أنهم جميعا لم يتعرضوا لهذا الخبر في برامجهم كما لم تكتب الجرائد حرفا واحدا عن هذه الحكاية لسبب واضح هو أنه لا يوجد دليل واحد على حدوثها.
بعد أن سمعت هذه الحكاية الغريبة، أسرعت إلى المقهى لمقابلة أبو طارق الذي قال لي: لعلك لاحظت أن الجميع ينتقدون بل ويهاجمون الإعلام في مصر، ولكن لا أحد من هؤلاء المنتقدين والمهاجمين تكرم بتشخيص الخطأ أو المرض الذي يشكو منه الإعلام، لا أحد منهم قال لنا ماذا يريد من الإعلام والإعلاميين على وجه التحديد.. الواقع أنهم يريدون عودة الإعلام الناصري.. ما أجمل أن تشتم الناس وأن تحولهم جميعا إلى عجزة خائفين من كل شيء.. هل تذكر بعد النكسة مباشرة عندما ظهرت السيدة العذراء فوق كنيسة الزيتون.. لقد أقسم عدد كبير من البشر أنهم شاهدوها بالفعل.. هذا يحدث عادة عندما يحلم البشر باستعادة شخص أو شيء يرون فيه خلاصهم، إن الرغبة الكلية والقوية في التحول إلى الإعلام الناصري الصاخب الممتع الناتج عن الجهل العام والعجز عن إدراك معطيات الواقع، هي المسؤولة عما حدث، لقد أرادوا عبد الناصر فظهر عبد الناصر.. اسمع، تشرب عرقسوس يروّق دمك؟
بقلا عن الشرق الاوسط
المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع
جميع الحقوق محفوظة للأقباط متحدون
© 2004 - 2011
www.copts-united.com