قبل أن تعى عدم تسرب أحزاب دينية إلى مجلس الشعب المقبل مرتدية «طاقية الإخفا» وقبل أن تدرك أن «داعش» تربية أمريكية وطلع عاصى، وقبل أن تفهم أن رحلتنا مع الإرهاب ليست ربيعية وأنها بكل الفصول قبل كل هذا وذاك، أنت إنسان ولك صفات بشرية تضحك فرحا ومرحاً وتزمجر غضباً وحزنا إقامتك الطويلة فى مكان واحد يجفف القلب ويعصر الروح ويكدر الفؤاد. النمطية فى الحياة تثير جهازك العصبى وتشتاق لكسر هذه الاعتيادية. أنت فى الواقع أسير لطقوس يومية مكررة، صارت تحتج وتمشى فى مظاهرة تطالبك بالتغيير، وربما «تعتصم» فى «ميدان الروح» وترفع شعاراً محدداً: الانتقال إلى «مكان آخر» أى السفر. لا تحدثنى عن السفر فى المكان الواحد والزمان الواحد، فهذه لعبة الفلاسفة أنا لا أعرف من اخترع السفر ولكنى أنطوى على احترام وحب وإجلال له، لقد فطن إلى صفة بشرية تسكننا هى «الملل»، ولكن الملل يحرض على التغيير. ولولا الملل لركدت الحياة وتوقفت عند مربع الصفر. إن توقف الماء عن الجريان يفسده، ولولا «فرار» السهم من القوس ما أصاب! والملل مرحلة من الحياة الزوجية ولا حل لها إلا بالسفر، أى الترحال. إنها فى حقيقة الأمر مسافة أو قل مساحة أشواق. إنها أشبه بـ «updating» للموبايل قبل مرحلة «التهنيج». إن السفر هو عملية «شحن» لبطاريات الإنسان، وعين المسافر جديدة وتتمتع بالفضول والرغبة فى المعرفة عين المسافر لا تعرف النوم، إنها عدسة مثبتة فى الذهن تلتقط آلاف الصور وتختزنها ربما لوقت ما تستدعيها وتمنحنا جرعة فرح، الترحال هو «الحل» والترحال فى اللغة هو الانتقال من مكان إلى مكان، والترحال منسوب للبدو لكثرة الانتقال وحين نقول «ألقى الفتى بعصا الترحال أى توقف عن السفر»، الاسترخاء فى السفر هو استرخاء ذهنى قبل أن يكون بدنياً، صحيح فى السفر لا تفارقنا المشاكل ولكننا نبحث عن حلول لها إننا «نهاجر» قليلاً من أنفسنا ونطل علينا من الخارج! وقديماً قيل «عشقت السفر من غدر البشر»، فى السفر ــ لمن عاش التجربة ــ توتر محمود وجزء من «مغامرة» نصف محسوبة. وابتعاد «مؤقت» عن مشاكل مزمنة، وتغيير فى الوجوه وربما العادات، أنا مثلاً أحب نوم القيلولة، ولكننى فى أوروبا أنام بالليل مبكراً إلا فيما ندر، حتى دعوات العشاء تبدأ فى الثامنة. وفى أوروبا أحبذ المشى أكثر من أى مكان آخر وفى المشى يقوم العقل بعمليات ذهنية، كما قال لنا نجيب محفوظ، الذى كان يرسم ملامح الرواية وهو يمشى. صحيح كان نجيب محفوظ يكره السفر لدرجة أنه أرسل ابنتيه للسويد لتسلم جائزة نوبل ولكنه دائم الترحال كواحدة من صفات الحرافيش، لا يثبت على «مكان» واحد فى ندوته الأسبوعية، ولما سألته مرة عن السفر قال لى وهو يضحك «هذا مسافر دائما بلا حقائب»، وأشار إلى عقله فى الوقت الذى كان أنيس منصور سيد أدب الرحلات يصف لى السفر بأنه «موعد غرام مع أرض جديدة» وقد أتيح لى السفر مع أنيس منصور حين كنا رؤساء تحرير كان ينصحنى بعد وصولنا الفندق بالنزول فوراً بحذاء مريح، للمشى مسافات طويلة، كان يقول «يجب أن نكتشف»، أضاف لى أنيس منصور معنى جديداً للسفر إنه «اكتشاف». فى السفر أنت تكتشف المدن وتكتشف نفسك.
فى السفر تتعلم عادات جديدة وتعانق طبيعة جديدة وتتعرف على طقوس جديدة وربما صداقات جديدة. فى السفر مسامك مفتوحة وعدسة العين لا تغفل، ووزنك أخف مما كنت، وشهيتك للحياة مفتوحة، والشوبنج واحدة من متع السفر والحصول على التذكار متعة أخرى وقد رأيت فى بيت نزار قبانى ببيروت «تذكارا» من كل مكان سافر إليه يمكن أن يكون متحفاً لتذكارات الدنيا التى وطأتها قدماه.
اسمعوا ما قاله نزار قبانى «قررت يا وطنى اغتيالك بالسفر وحجزت تذكرتى وودعت السنابل والجداول والشجر وأخذت تصاوير الحقول وحصلت على إمضاء القمر» يريد نزار أن يقول لنا إن سماء دمشق أو بيروت لن تغيب عن باله ثانية واحدة، إنه «ينتقل» بجسده ولكنه «مهموم» بوطن تتربص به الغربان. أما صديقتى الفصيحة غادة السمان، فقد اعتادت أن تختار قرية فى جنوب فرنسا مقراً لإبداعاتها الأدبية، أتذكر من كروت بوستالها أنها كتبت لى مرة «هنا أغتسل تماما». ومرة أخرى «ديجون»، حيث أقيم فى الجنوب الفرنسى «مواجهة مع النفس». ومرة ثالثة تصف نفسها وهى تكتب فى مقرها الأدبى «إطلالة البوم تفرحنى» وربما لا يعلم أحد أن غادة السمان تتفاءل بالبومة على عكس البشر الذين يرونها «نذير شؤم»! وتصحب غادة معها فى أسفارها «بومتها»، فهى بومة حقيقية وبعمليات كيميائية ظلت بطلتها(!) التى تفضلها رفيقة سفر. وكان غسان كنفانى، صديق غادة السمان، يكتب لها «أشواقى تسافر إليك تلثمك ولا تنسى مصافحة بومتك»!!
الأماكن الجديدة فى السفر لها طعم مختلف عما اعتادت عليه العين. المكان الجديد قد يغازل الإنسان حتى يقع فى غرامه. لى فى كل مدينة زرتها مكان ما وقعت فى حبه وصرت أسيراً له أذهب إليه وأجلس فى نفس ذات المقعد وأشم روائح تعرفها أنفى جيداً. لا تندهشوا من التصورات فالمسافر زاده الخيال. وفى أوروبا أحببت السفر بالقطارات، إنها عدسات متحركة تمسح الأرض والشجر والزهور ووجوه الصبايا. قطارات أوروبا «آدمية جداً» حماماتها ودورة مياهها «نظيفة جداً» جرسونات القطار «رقيقات جداً» ومواعيد القيام والوصول «دقيقة جداً». وسائق القطار الأوروبى «باشا جداً» وأمن القطارات «صاحى جداً». ووجبات القطار «طازة جداً» ورفوف القطارات لحقائبك الصغيرة «محكمة جداً»، ومن لم يركب قطاراً فى السفر، فاته الكثير، وفى فجر مشوارى الصحفى ركبنا «الرسام إيهاب شاكر وأنا» قطار النوم من أقصى شمال ألمانيا إلى وسطها فى فرانكفورت ونمت بعمق أدهشنى!
أنا بالمناسبة من مرضى السفر ولا شفاء منه إلا بالسفر، ومن الممكن القول إن أطبائى، وهم ضباط الجوازات فى المطارات، يعرفون علتى! أنا قليل السفر على ظهر مركب، يقتلنى البطء والصورة «slow motion» الأبطأ، أحمل معى فى السفر كاميرا ألمانية، والغريب أننى قليل الاستخدام لها، وأنا لا أجيد تصوير نفسى بنفسى أو ما يطلق عليه «selfy»، غالباً ما أطلب ممن معى التقاط صورة للمكان ولم أستخدم بعد هذا العمود المثبتة فى أعلاه الكاميرا للتصوير المنفرد الذى صار شائعاً الآن، ويعبر عن التأكيد على «فردية» الإنسان وعزوفه عن الآخر!
هل يمكن أن نصف الإنسان بأنه كائن مسافر؟ لا أدرى تماماً، ولكنى سمعت مرة «رحالة يسافر على قدميه» يقول «مثلما يغير الإنسان فى بيته مكان نومه من السرير إلى الكنبة إلى فوتيل إلى الأرض، فهو مسافر طول الوقت حتى فى المكان الواحد»، لهذا تكون قوائم الممنوعين من السفر هى «العذاب الأعظم» لأى إنسان. إنه يشعر بأنه «محروم» من نعمة اسمها السفر حتى لو لم يمارسها ويستمتع بها، إنه يشعر أنه «محبوس» داخل بلده مع أن حرية السفر والترحال من المواد الأساسية فى الدستور. وصف لى أحد الممنوعين من السفر الذى أبطلت السلطات أخيراً هذا المنع «كأنما أفرجوا عن روحى»! الغريب أن الشخص نفسه المفرج عنه لم يسافر إلا بعد عام كامل، ذلك أن المنع من السفر هو قرار «اعتقال» مهذب داخل الوطن، إنه شعور نفسى بالاختناق!
يعجبنى قول رحالة برازيلى «إن الحياة سفر إلى سفر إلى سفر» نعم إننا نسافر من الصبا إلى الرجولة ثم إلى الكهولة ثم نمضى إلى سفر مجهول، ومن قال «إن الطير يتمتع بالحرية أكثر منى» لم يخطئ وأسراب الطيور المهاجرة إلى دفء السماوات ورزق الأرض خير دليل وإن كانت تعود لى أغصان أشجارها تحت سماواتها البعيدة. إن كل كائن حى يسافر، ويرحل حتى النبات يسافر «شتلات شتلات»!
إن جواز سفرى يضم ملف «صديقاتى» من مدن العالم، كل مدينة ــ كامرأة ــ لها طلة ومذاق ورائحة. وأنا من الذين يحتفظون بجوازات أسفارهم القديمة، وعندما يروق لى أن أقلب صفحات واحد منهم أشعر كأنى أستعيد شريطاً قديماً لا يخلو من المتعة: كل «ختم وصول» على جواز سفرى معناه دخول عالم جديد: وجبات أخرى، وموسيقى مختلفة، ووجوه ثانية، وعادات جديدة وطقوس فريدة، ولغة خاصة وعلم خاص، وفى «روما افعل مثلما يفعل الرومان»، مثل إيطالى.
لا شك أن السفر ثقافة غير «فوائده الخمس» المعروفة التى أرشدنا إليها الإمام الشافعى، ولكن السفر فيه ثقافة التعرف على بلد ما، الشعب والتقاليد والتاريخ والجهاد والثروات والمبدعين. السفر كتب منوعة ملونة وحية يرتادها المسافر ويتذوق أكلاتها ويلتقى بناسها ويعقد صداقات جديدة ويتبادل أرقام الهواتف مع أسماء جديدة. أنا أحب قراءة صحف البلد الذى أزوره لا لأنى صحفى متابع لتقلبات العالم، ولكن لأن الصحيفة «سجل يومى لأحداث وطن ما» تعودت أن أعود من أسفارى بكتب صدرت حديثاً وأسطوانات مزيكة، وأفلام عالمية قبل الحذف أثارت جدلاً، تعودت زيارة الكنائس حيثما كنت وهى أشبه بالمتاحف العالمية، زيارة الكنيسة هى ذخيرة روحية فى السفر.
أنا مثلك لا أستطيع «التكيف» مع سريرى فى أول ليلة أبيتها فى عاصمة أخرى، ولكن هذه ضرائب صغيرة فى السفر، بيد أنى أعترف أنى مهما تغربت وسكنت أبراج فنادق، ودوخنى جمال الصبايا وروعتنى مناظر فتنة الطبيعة وسهرت وضحكت وفرحت، أجد نفسى ــ بعد أيام قليلة ــ مشدوداً لمصر بجمالها وقبحها، بنضارتها وقمامتها، بطموحاتها وهمومها، بأمسها وغدها، بإشراقاتها وإرهابها الجبان، بشرطتها ذات النفس الطويل وجيشها العالى الجباه، بمعركتها ضد أعداء الحياة، وعندما تقول مضيفة الطائرة «نستعد للهبوط فى مطار القاهرة» أشعر أنى دخلت «المجال النفسى» لأقابل نفسى بعد إجازة قصيرة، حتى لا يجف قلبى من طول الإقامة فى المكان الواحد.
نقلا عن المصري اليوم
جميع الحقوق محفوظة للأقباط متحدون © 2004 - 2011 www.copts-united.com