حين سمعت أن الدكتور حامد عمار كتب سيرته الذاتية وأصدرها منذ بضع سنوات تمنيت أن أقرأها. وحين سمع شيخ التربويين أنى أبحث عن سيرته تكرم فأهدانى نسخة منها، كانت لى خير صاحب فى الأيام القليلة الماضية.
والسيرة الذاتية خاطر يلح علىّ منذ سنوات ويغرينى بقراءة ما كتبه المصريون وغير المصريين فى هذا الشكل من الكتابة الذى يتقاطع مع غيره من الأشكال الأدبية ويتبدى فى صور متعددة. فهو تاريخ حياة أحياناً، وأحياناً يوميات، وأحياناً مذكرات، وأحياناً روايات، وأحياناً قصائد.
إذا اعتمدت السيرة على ما هو اجتماعى أو سياسى فى حياة صاحبها اختلف الشكل بالضرورة عما لو اعتمدت على الجوانب الذاتية والأسرار الشخصية. هكذا اختلفت «مذكرات الشباب» للدكتور محمد حسين هيكل عن «أيام» طه حسين.
فى «الأيام» جوانب حميمة لم تتعرض لها «المذكرات» كثيرا، ولهذا فضل طه حسين أن يستخدم ضمير الغائب فى الحديث عن نفسه، على حين استخدم الدكتور هيكل ضمير المتكلم كما فعل العقاد فى كتابه «أنا». وبعض السير اعترافات صريحة كما نرى فى سيرة لويس عوض. وبعضها اعترافات بأقنعة وأسماء مستعارة تتحول فيها السيرة إلى رواية كما نجد فى «عودة الروح» و«عصفور من الشرق» و«زهرة العمر» لتوفيق الحكيم، وفى «الثلاثية» و«ثرثرة فوق النيل» و«ميرامار» لنجيب محفوظ. وفى الشعر أيضاً اعترافات صريحة جداً كما نجد فى بعض قصائد أمرئ القيس وأبى نواس، وأقرب إلى الصراحة كما نجد فى قصائد الرومانتيكيين.
وقد جمع الدكتور عمار بين هذه الصور المختلفة فى سيرته التى اختار لها عنواناً مستوحى من أبيات لشاعر من شعراء القرن الرابع الهجرى ــ العاشر الميلادى ــ يقول فيها:
مشيناها خطى كتبت علينا
ومن كتبت عليه خطى مشاها
من هذا البيت استوحى الدكتور عمار عنوان سيرته فسماها «خطى اجتزناها» ووضع تحته عبارة تلقى عليه بعض الضوء وتثير فضولنا لقراءة السيرة فقال «بين الفقر والمصادفة إلى حرم الجامعة.. سيرة ذاتية».
والواقع أن سيرة حامد عمار لا تستطيع أن تكون سيرة ذاتية تخص كاتبها وحده وتحبس نفسها داخل حدوده، وإنما هى كسيرة أمثاله من الرواد الكبار وكما سيجدها من يقرؤها سيرة جيل كامل. بل هى سيرة مصر كلها خلال العقود التسعة الماضية التى عاشها الدكتور عمار منذ ولد فى العام الحادى والعشرين من القرن الماضى إلى اليوم الذى انتهى فيه من كتابة سيرته قبل تسعة أعوام. خمسة وثمانون عاماً من عمر حامد عمار ومن عمر مصر نجدها حية نابضة بصورها الناطقة وأحداثها الحية.
لأن حامد عمار لم يهبط على مصر من خارجها، ولم يعش حياته على سطح حياتها، ولم يتنكر لأزيائها ولهجتها ليستبدل به زى الراتب الجديد ولهجته، وإنما نبت حامد عمار من أعماق بلاده ومن باطن تربتها كما ينبت العشب، ونما وترعرع وأزهر وأثمر ومد ظله على ما حوله كأنه الجميزة العتيقة التى أظلت طفولته، ومازال يفعل حتى الآن بعد أن بلغ التسعين وتجاوزها، ذاهباً إلى المائة التى ندعو له بأن يبلغها ويتجاوزها وهو فى أتم صحة وأحسن حال.
■ ■ ■
فى قرية نائية فى أقصى جنوب مصر، وفى أسرة لا تملك من حطام الدنيا ولا يملك منه غيرها من أهل القرية البالغ عددهم آنذاك ألفى نسمة إلا القليل المتواضع. قراريط من الأرض المزروعة تعد على أصابع اليد الواحدة لكل مالك من الملاك القليلين. والماء بعيد بينه وبين القرية عدة كيلومترات تقطعها فتيات القرية مشياً بجرارهن الممتلئة. والعزلة مضروبة على القرية التى لا يصلها بغيرها من القرى إلا السكك الضيقة، يقطعها الفلاحون على حميرهم يوم السوق وفى المناسبات العائلية والأعياد الدينية. والكتاب هو المدرسة الوحيدة التى يتعلم فيها القراءة من أتيح لهم أن يتعلموها وهم فى تلك الأيام البعيدة لا يزيدون على اثنين فى كل مائة ولا يجدون بعد ذلك ما يقرأونه إلا ما يعثرون عليه هنا أو هناك من كتب الطب الشعبى والأدعية الدينية والسير الموروثة. ولقد كان استماعهم للجرامافون الذى حمله الصراف حدثاً تاريخياً صدقوا معه أن الحديد نطق. وهذا هو العالم الذى نبت فيه حامد عمار.
عالم مرادف للكلمة الأولى فى العبارة التى فسر بها عنوان سيرته فكيف انتقل حامد عمار من هذا العالم الفقير النائى إلى حرم الجامعة؟
الجواب: انتقل بالمصادفة، سلسلة من المصادفات توالت واحدة بعد أخرى لم تحمله إلى الجامعة المصرية فحسب، بل حملته إلى جامعة لندن ليتتلمذ على كارل مانهايم، وكارل بوير، وهارولد لاسكى، بعد أن تتلمذ فى مصر على طه حسين، وإسماعيل القبانى، وعبدالعزيز القوصى، وشفيق غربال، وعبدالمنعم أبوبكر، ولبيب باهور، وليكون أول مصرى يحصل على الدكتوراه فى التربية عن رسالة كان موضوعها «التنشئة الاجتماعية فى قرية مصرية»، هذه القرية المصرية هى قريته «سلوا» التى تقع بين إدفو وأسوان.
حامد عمار لم يكن وحده وهو فى لندن، كانت قريته أو بالأحرى مصر حاضرة معه.
كيف حدث هذا؟ حدث هذا لأن حامد عمار ولد يوم ولدت بلاده ميلادها الجديد. والميلاد الجديد هو البعث أو عودة الروح كما سماه توفيق الحكيم فى روايته، أو النهضة كما درجنا على تسمية ما حققناه فى تاريخنا الحديث وتوجناه بثورة ١٩١٩ التى استعدنا بها استقلالنا عام ١٩٢٣، وأنشأنا دولتنا الوطنية، وحصلنا على الدستور الذى نص فى مادته التاسعة عشرة على أن «التعليم الأولى إلزامى للمصريين من بنين وبنات وهو مجانى فى المكاتب العامة». وبناء على هذه المادة حصلت «سلوا» عام ١٩٢٥ على مدرسة إلزامية انتظم فيها الطفل حامد عمار، وانتقل منها بمصادفة سعيدة إلى المدرسة الابتدائية فى إدفو، ومنها بمصادفة أخرى إلى المدرسة الثانوية فى جرجا، ومن ثانوية جرجا إلى جامعة فؤاد الأول فى القاهرة. وكلها مصادفات أو أنها بدأت مصادفات حولها حامد عمار إلى خطى اجتازها بثقة وخطط نفذها واحدة بعد الأخرى.
فى الخطوة الأولى تكفلت إحدى الأسر برعايته. وفى الخطوة الثانية حصل على مكافأة تشجيعية، كانت جنيهاً فى الشهر تضاعف فأصبح جنيهين اثنين، وهما فى ثلاثينيات القرن الماضى مبلغ معتبر مكنه من الحصول على البكالوريا واحتلال المركز السادس بين العشرة الأوائل الحاصلين عليها فى مصر عام ١٩٣٧، وبهذه المناسبة نشر اسمه مع بقية زملائه فى «الأهرام»، وحصل على المجانية فى جامعة فؤاد الأول، حيث التحق بكلية الآداب ليدرس التاريخ ويحصل على الليسانس الممتازة عام ١٩٤١، ويلتحق بعد ذلك بمعهد التربية لينال الدبلوم فى العام التالى ويكون أول الناجحين فينفتح الطريق أمامه خطوة بعد خطوة ليكتشف العالم ويتصل بمراكز الحضارة الحديثة فى العواصم الكبرى عضواً فى الوفود المصرية المشاركة فى النشاط الدولى، ومستشاراً للأمم المتحدة فى التربية البشرية، وخبيراً فى المركز الدولى للتربية الأساسية فى سرس الليان، وعضواً فى مجلس إدارة معهد الأمم، وفى اللجنة الاقتصادية والاجتماعية التى شكلتها الأمم المتحدة للعمل فى غرب آسيا، حيث مارس حامد عمار نشاطه فى بيروت وبغداد خلال العقود التى اشتعلت فيها الحرب الأهلية فى لبنان، وسقط العراق فى قبضة صدام حسين، واشتعلت الحرب العراقية الإيرانية، وهى تجارب عنيفة تعرض فيها عمار للخطف فى بيروت، وسرقت سيارته، وأحاطت به العيون والآذان فى بغداد.
ولم تكن مصر بعيدة عن هذه الفواجع المتلاحقة.. النظام الشمولى الذى جثم عليها وسلط عليها أجهزة أمنه وقادها إلى الهزيمة. وتراجع مستوى التعليم وتوظيفه فى السياسة.
وانتشار التفكير الخرافى وسيطرة الجماعات الدينية على الأنشطة الجامعية، وشراء الشهادات والأبحاث، وانتشار الحجاب والنقاب والفصل بين الجنسين، وفساد اللغة العربية، وهجمة الجامعات الأجنبية، وانتشار التقاليد الخليجية، وهنا ينزل الستار وينهى حامد عمار سيرته التى صدرت عام ٢٠٠٦ قبل أن تهب مصر لتخرج من هذا الموت النازل وتولد فى يناير وفى يونيو من جديد!
لقد استمتعت بقراءة هذه السيرة لكنى وقفت أمام أخطاء فى اللغة أرجو أن يتداركها الأستاذ فى الطبعة القادمة.
نقلا عن المصري اليوم
جميع الحقوق محفوظة للأقباط متحدون © 2004 - 2011 www.copts-united.com