نعيش عامًا جديدًا، حدثت فيه تغيرات وتحولات، سواء فى منطقتنا أو فى بلدنا ما كان أحد يتوقعها، وهكذا تتغير الأحوال، ويتبدل الأشخاص، فسبحان الله، ما أحكم تدبيره، وما أتـقن تصريفه، يعز من يشاء، ويذل من يشاء، ويعطى بفضله من يشاء، ويمنع بعدله من يشاء.. قال تعالى فى سورة «القصص»، آية 68: «وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ»، إنه عام هجرى جديد يذكرنا بهجرة الرسول، هذا الحدث العظيم، والتحول الكبير فى تاريخ الإسلام، يوم أن ضاقت مكة برسول الله وأصحابه، ومكرت بهم، ودبرت لقتل الرسول، فأذن الله لهم بالرحيل، وأمرهم بالهجرة، ليجعل نصرهم وتمكينهم فى المدينة المنورة. لقد طاف رسول الله صلى الله عليه وسلم بأهل مكة وعرض نفسه عليهم، وتوجه إلى رؤسائهم وقبائلهم، وهو يرجو أن يجد منهم نصرة وتأييدًا، لكن دون جدوى، فتوجه إلى الطائف علّه يجد من يؤويه وينصره، فيقول فى كل موسم: «من يؤوينى، من ينصرنى حتى أبلِّغ رسالة ربى»، فلم يجد من يؤويه، ولا من ينصره، فلما أراد الخروج تبعه سفهاؤهم وعبيدهم، يسبونه ويصيحون به حتى اجتمع عليه الناس، فوقفوا له سماطين، أى صفين، وجعلوا يرمونه بالحجارة وبكلمات من السفه، ورجموا عراقيبه، حتى اختضب نعلاه بالدماء، وكان زيد بن حارثة يقيه بنفسه حتى أصابه شجاج فى رأسه، ولم يزل به السفهاء، كذلك حتى ألجأوه إلى حائط لعتبة وشيبة، ابنى ربيعة، على ثلاثة أميال من الطائف، فلما التجأ إليه رجعوا عنه، وأتى رسول الله إلى حبلة من عنب، فجلس تحت ظلها إلى جدار، فلما جلس إليه واطمأن، قال: «اللهم إليك أشكو ضعف قوتى، وقلة حيلتى، وهوانى على الناس، يا أرحم الراحمين، أنت رب المستضعفين، وأنت ربى، إلى من تكلنى، إلى بعيد يتجهمنى، أم إلى عدو ملكته أمرى، إن لم يكن بك على غضب فلا أبالى، لكن عافيتك هى أوسع لى، أعوذ بنور وجهك الذى أشرقت له الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة من أن ينزل بى غضبك، أو يحل علىّ سخطك، لك العتبى حتى ترضى، لا حول ولا قوة إلا بك»، لكن أذن الله بالفرج من عنده عندما قدم إليه ستة نفر من المدينة، فآمنوا به وصدقوه، ثم ذهبوا إلى أهلهم فى المدينة فأسلموا بإسلامهم حتى لم تبقَ دار من ديارهم إلا وفيها رهط من المسلمين، ثم اجتمعوا جميعًا فقالوا: حتى متى نترك رسول الله يطارد فى جبال مكة، ويطوف على أهلها؟، فرحل إليه منهم سبعون رجلاً، واعدوا رسول الله عند العقبة فبايعوه على السمع والطاعة فى النشاط والكسل، والنفقة فى العسر واليسر، والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، وأن يقولوا فى الله لا يخافون لومة لائم، وعلى أن ينصروه إذا قدم إليهم فيمنعونه مما يمنعون منه نساءهم وأبناءهم وأزواجهم، فوافقوا على ذلك وبايعوا عليه ولهم الجنة، وهاجر الرسول قال تعالى فى سورة التوبة آية 40: «إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِى الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُواْ السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ».
قدم رسول الله المدينة، فلما سمع أهلها بقدومه فرحوا فرحًا يملأ القلوب، ويسد الآفاق، حتى إنهم كانوا يخرجون فى كل صباح إلى الحرة ينتظرونه، ويتهيأون للقائه ومعهم السلاح، استعدادًا للدفاع عنه، فلما وصل إلى المدينة قال قائلهم: جاء محمد، جاء محمد، الله أكبر، جاء رسول الله، فخرج الناس من البيوت، وامتلأت الطرقات، وانطلقوا ليستقبلوا الرسول فى سرور وبهجة، وكل منهم يتنازعه ويمسك بزمام ناقته لينزل عنده، ويحط رحاله فى داره، ورسول الله يقول لهم: «دعوها فإنها مأمورة»، فلما انتهت به إلى مكان مسجده بركت، فقال الرسول: «هذا إن شاء الله المنزل».. فهكذا جاء الفرج بعد أن تكبر الكبراء فى مكة، واستكبر الزعماء من أهل قريش، فجاء نصر الله من حيث لم يحتسبوه، جاء من المدينة، ولم تأتِ الحماية والنصرة من مكة التى فيها من القبائل العظيمة ذات الجاه والمال والسلاح، فهذا درس لليائسين والمتشائمين والقانطين من الفرج، المستبعدين للنصر.. إن ما يجب علينا هو أن نثق بالله وقدرته وفضله أولاً، ثم نُحْسن النية، ونثق بأنفسنا، ونواصل السير والأخذ بالأسباب، ونعلم أن تحمل المشقة وبذل الجهد هو شرط للنجاح والفرج، فقبل الهجرة وعندما اشتد الكرب على الصحابة، وحاصرتهم الهموم قدم خباب رضى الله عنه قائلاً: يا رسـول الله، ألا تستنصر لنا، فاحمر وجهه الشريف، وقال: «قد كان فيمن كان قبلكم ينشر بالمنشار من مفرق رأسه ما يصده ذلك عن دينه، والله ليتمنّ الله هذا الأمر حتى يسير الراكب مـن صنعـاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه»..
انظر إلى تربية الرسول لأصحابه، إنه يعلمهم أنه من الثقة بالله ونصره أن يأخذ الإنسان بالأسباب، ويتحمل المشقة. هكذا تعلمنا الهجرة أعظم دروسها، أن نصنع الأمل، وأن نترقب ولادة النور وانبثاق الفرج، فإن مع العسر يسرا، إن مع العسر يسرا، فيوم أن ضاقت مكة جاء الفرج من المدينة، ويوم ارتدت القبائل عن الإسلام بعد موت رسول الله حتى ظن الظانون أن الإسلام زال وانتهى، جاء الله بأبى بكر الصديق الذى أعاد الإسلام ليعم أرجاء الأرض، وعندما هاجت الفتن بعد مقتل عثمان رضى الله عنه، وظنوا أنه لن يقر للأمة قرار، وأنها تمزقت، انتهت الفتنة، وجاء على رضى الله عنه، وجمع شمل المسلمين، وكذلك عندما أطبق التتار على أمة الإسلام، وأبادوا حاضرة الخلافة الإسلامية،
بغداد، وقتلوا فيها مليونى مسلم، فظن الظانون أن ريح الإسلام ذهبت، وشوكته انكسرت، فجاءت معركة «عين جالوت» التى أعادت للأمة مجدها وعزها، وهكذا يزرع الإسلام فى قلوبنا جميعًا الأمل، ويحذرنا من اليأس والقنوط، وأنهما يتعارضان مع الإيمان بكمال الله وقدرته.. يقول الله سبحانه وتعالى فى سورة «يوسف»، آية 87: «وَلاَ تَيْأَسُواْ مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ»، ويقول فى سورة «الحجر»، آية 56: «قَالَ وَمَن يَقْنَطُ مِن رَّحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّالُّونَ»، وما أحوجنا إلى فهم هذه المعانى فى ظل الظروف الصعبة التى تمر بها الإنسانية الآن، والتحديات التى تواجهنا بصفة يومية. فمن أراد أن يغير من حاله، ويرتقى به فى سلم الكمال، فعليه أن يوطّن نفسه على مواجهة الصعاب، وليعلم أن الطريق لن يكون سهلاً خالياً من الأكدار والمنغصات،
ومن أراد التغيير دون أن تواجهه مشاكل فى الطريق فهو لم يعرف حقيقة الحياة وطبيعة التحول والترقى، وإذا كانت المعاناة من ضروريات التغيير، فإن الأمر السلبى الذى قد يصاحب التغيير هو حالة الإحباط التى قد تصيب الإنسان من هذه المعاناة، لذا، تعلّم أنّ الإحباط والمعاناة اللذين تتحمّلهما يساعدانك دائمًا على التقدّم إلى الأمام متى اتعظت منهما، فهذا العالم الذى نعيش فيه ما هو فى الحقيقة إلا فرصة لك لتطوّر شخصيتك، واعلم أنّ الإيمان بالله أساس كل نجاح، وهو النور الذى يضىء لصاحبه الطريق، وهو المعيار الحقيقى لاختيار النجاح الحقيقى، فالإيمان يمنحك القوة،
وهو بداية ونقطة الانطلاق نحو النجاح، وهو الوقود الذى يدفعك نحو النجاح، والأمل هو الحلم الذى يصنع لنا النجاح، فرحلة النجاح تبدأ أملاً ثمّ مع الجهد يتحقّق الأمل، فلا تقف عند الذكريات الأليمة، والمحاولات الفاشلة والتحديات، وتُبقى نفسك سجين الدمعة والآهات لأن هذا شىء سلبى، بل اجعل لك أهدافًا سامية تأمل بإذن الله فى تحقيقها، وتسعى جدّيًا لذلك، فالطموح - كما قالوا - ينسيك الجروح. ثمّ عليك أن تبقى وسط أحداث الحياة ونشاطاتها، فالحياة عبارة عن فصل دراسى تتعرض فيه للاختبار، ويتوقّع منك أن تحقّق تقدمًا مهمًا خلال فترة زمنية معقولة، وإن لم تستفد فى فصل الحياة فإنها ستعيد لك الدرس تلو الآخر حتى تتعلم وتنجح، وهذا يشبه إلى حد كبير الفصول الدراسية، فمتى رسب الشخص فإنه إما أن يُعيد الفصل حتى ينجح أو ينسحب، والحقيقة أن الإنسان قد يجعل من الصعاب قوة دافعة للإنجاز، وتحقيق أهدافه وطموحاته.
نقلا عن اليوم السابع
جميع الحقوق محفوظة للأقباط متحدون © 2004 - 2011 www.copts-united.com