بقلم مفيد فوزى
■ أن يعود مهرجان السينما لإضاءته شارع الفن والحياة شىء رائع، خصوصاً فى زمن تفعيل «القوة الناعمة» فى المجتمع لمواجهة إرهاب ممنهج، وأن نذكر - من باب الوفاء - اسم كمال الملاخ، أول من تربى هذا المولود على يديه وكان راعياً له حتى استقام عوده ووقف على قدميه، شىء محترم، وأن نقدر ونفرح برئيس المهرجان الجديد الكاتب الناقد سمير فريد، وعطاء السنين بالكلمة الصادقة، شىء مبهج، وأن تكون الفنانة يسرا، رئيسة تحكيم المهرجان، اختيار سليم، فالتطور طبيعى لكونها فنانة برأى ولها تاريخ وأدوارها علامات فى كتاب السينما المصرية عبر قرن من الزمان، وأن نحتفى بالمهرجان شعبياً وإعلامياً ورسمياً، فإننا - كما أقول- قادرون على البناء والحرب والغناء. والمهرجان «أغنية على الممر».
■ وأن يحمل المهرجان اسم نادية لطفى، فهذا أروع و«فى الجون» كما يقولون، أصاب «الإنصاف» نادية لطفى بعد عشرات السنين. اليوم انتبهنا إلى «وزنها» كفنانة، متابعة للحياة المصرية مشاركة فى فعالياتها، فاجأتنا بحضورها الجميل فى قصر القبة، أمسية الاحتفال بتوديع منصور واستقبال السيسى رئيساً لمصر، ولم تبخل نادية لطفى بالطلة وهى مريضة، وحين سألتها همساً «كيف عبرت قلة الحركة وقاومت المرض؟» قالت فى عفوية شديدة «كنت خايفة المشهد ده يروح منى»، من كان يدقق فى وجه نادية لطفى ذلك المساء، سيكتشف أن «الفنانة المصرية» حاضرة بوجودها ومرحها وصوتها الذى لا تخطئه أذناك، نادية لطفى الشجاعة التى قالت ما تؤمن به فى عز صولجان الإخوان، ولتأذنوا لى أن أقلب صفحات العمر وأقدم لكم رسماً بالكلمات لفنانة أعطت، ورغم المرض، لم تنقطع عن العطاء واسمها يتصدر المهرجان.
■ هذه هى بولا محمد شفيق ابنة مصر الجديدة، الشابة الشقراء اللافتة للنظر بجمالها وشعرها، ذهبى الخصلات، كانت تعتاد ركوب البسكليتة ويراها شباب مصر الجديدة فيكتفون بنظرات إعجاب ولا يتطاولون بكلمة، أيام كان شبابنا «متربى» فى ذلك الوقت المبكر كانت «بولا» متزوجة من القبطان عادل البشارى أحد فرسان البحار، وهو والد «أحمد البشارى» ابنهما الوحيد، وهو رجل الأعمال بضمير مثل أمه وقد كان نجاحه فى البحرين بنكياً ثم واصل النجاح وتزوج ولم تغب «بولا» عن اهتمامه رغم الخلاف فى الرأى الذى يدب عادة بين جيلين، كانت بولا تمارس «أمومة» حديثة وكانت تنتظر القبطان زوجها بالأسابيع كلما سافر رحلة يعود منها إليها مشتاقاً. غير أن الزمن كتب لنادية لطفى «سيناريو» آخر فى حياتها الشخصية.
■ أول مرة التقينا - نادية لطفى وأنا - كان فى سوريا، ذات صباح دمشقى صحو فى إحدى حدائقها الشهيرة «ذُمّر» وكان الشاهد صوت فيروز تشدو يا جارة الوادى، جئنا مع «أضواء المدينة» وكنا نقيم فى فندق سميراميس، كان معنا جلال معوض، أشهر الأصوات الإذاعية ذلك الزمان وارتبط اسمه بأضواء المدينة، يومها جلسنا فوق دكة فتكلم، لم يكن يهمها أنى صحفى وهى فنانة ولا اهتمت طول العمر بنفاق صاحب قلم، كنا مجرد اثنين جمع بينهما «البدايات»، فهى فنانة تبدأ المشوار وأنا على درجات السلم الأولى وهى يقدمها جمالها إلى المجتمع وأنا «نكرة». فى ذلك الزمان المبكر عرفت «بولا» والمقربون منها ينادونها بولا، عرفتها وأدمنت الجلوس معها فهى تعطى «طاقة» إيجابية لمن حولها، ومن الممكن القول إنها طفلة مشاكسة وعنيدة، ولابد إذا أغضبتها أن تصالحها بباكو شوكولاتة أو بكلمة حلوة أو بباقة ورد مثلما كان يفعل معها رشدى أباظة، وقد تغيرت تماماً حياة الزوجة بولا حرم القبطان بعد أن لمحها رمسيس نجيب سيد منتجى السينما وصاحب النظرة الثاقبة، فهو مكتشف النجوم الأشهر.
■ كنا - بولا وأنا - نحلم بالغد وكان يشاركنا الفنان الرسام إيهاب شاكر، صاحب الريشة المبصرة، كنا نحن الثلاثة «يطق فى دماغنا» أن نركب سيارة بولا ونسافر إلى العجمى فى الإسكندرية، كانت بولا تمتلك «شاليه» جميلاً وكنا نقضى فيه اليوم ونعود فى المساء كنا نضحك من قلوبنا، فقد كنا بلا هموم، فى ذلك الوقت تعرفنا على «جيهان» و«سوسو» صديقتى بولا المقربتين وربما كانا «مراياها» الشخصية، عرفت طعم الصداقة العزبة حين تعمر فى القلوب، كانت جيهان «فرامل» بولا حين يدفعها الصدق إلى مناطق غير آمنة.
■ لفتت بولا، الشهيرة بنادية لطفى، الأنظار من الفيلم الأول لها، لفتت صاحبة النظارة السوداء أنظار جمهورها والنقاد، كان جمهورها فى أول ظهورها من الطبقة الأرستقراطية وعندما عرفها الناس أكثر واكتشفوا أنها بنت بلد أحبوها و«استجدعوها»، وعن شهامة بولا حدث ولا حرج، كان جمال نادية لطفى مختلفاً عن سمات جمال الأخريات ومعظمهن سمراوات، لكن «مصريتها» كانت تتجلى فى سلوكياتها، ذات مرة أعطتنى حفنة أوراق لكى يقرأها الكاتب د. مصطفى محمود، الذى كان يروق له أن ينادينى «مفيز» ويستبدل حرف الدال بحرف الزين، قالت لى بولا الفن اللى فى الورق عاوز نظرة، ودفعنى الفضول المهنى والشخصى أن أقرأ الأوراق التى تحمل اسم عنايات الزيات، شعرت أنى أمام فنانة صرف من نوع غير مسبوق وتكتب بدمها ودموعها ذهبت بالأوراق إلى مصطفى محمود، وقال عنها بعد أن التهم الصفحات إن عنايات الزيات «مشروع روائية مهمة»، ولا أعرف كواليس ما حدث فلم يهتم أحد بعنايات كما حلمت، وذات صباح كنت أتصل ببولا فإذا بها تصرخ صراخاً مشحوناً بحزن، كانت هذه أول مرة يبكى «الهدهد» بهذا الشكل، حاولت استيضاح الموقف جاء صوتها متقطعاً ومتضارباً، كل الذى التقطته هو اسم عنايات الزيات، فقلت على الفور «مالها عنايات؟» المذهل أنها أجابت بثبات ثم انخرطت فى بكاء كالسيل لا يجف: «عنايات انتحرت»، كيف ولماذا وما ظروف هذه النهاية؟ لم أستطع معرفة الحقيقة، فقد طوت عنايات صفحتها ومضت، بينما شعرت بولا أنها فقدت (قطعة) منها.
■ أول مرة تدرك بولا محمد شفيق معنى «الموت» وتحس معنى الافتقاد، مكثنا أسابيع بعد هذه الحادثة نتألم وكانت ضحكاتنا باهتة، وتمر الأيام وتصحو بولا «الصديقة» من نومها على خبر «رفدى» من روزاليوسف يوم ١٥ أكتوبر عام ١٩٦٤، وبكت بولا بحرقة حتى قالت عبارتها المأثورة «معاك حتى مثواك الأخير»، وخلال أيام فصلى كنت أزور بولا واقتربت أكثر، فقد احتوت أحزانى بأمومتها وكانت تبذل جهداً هائلاً للترويح عنى خصوصاً أنها فى عز الحزن قد تضحك، فخلاط الضحك والبكاء متلازمان، أتذكر أننى أجريت حواراً صعباً معها، كما كلفنى موسى صبرى وقال: «لا أريد أن يبدو من سطور الحوار أنك مفيد فوزى وإلا رحت ورا الشمس»، كان موسى صبرى يستكتبنى حتى لا يتجمد قلمى ولم يوقع هذه الأحاديث، ونشر الحديث فى مجلة الجيل التى كان يرأس تحريرها.
■ حين عدت للعمل كان صوت بولا أول من هنأنى وهى تضحك وتردد «معاك حتى مثواك الأخير»، كانت بولا قد تزوجت المهندس إبراهيم صادق، القريب من أسرة عبدالناصر، وكان ذلك يشير إلى احترام السلطة للفنانة نادية لطفى التى كانت لها مواقف سياسية تطوعية مع الفلسطينيين وعرفات دخلت تاريخها، وفى كل حروب مصر كانت نادية الممرضة والحانية على الجرحى من جنودنا ودون أن يكلفها أحد.
■ خلال مشوار نادية لطفى صادفت المخرج يسين كمال الذى كان له دور كبير فى إعادة صياغة أفلامها ونضجت كثيراً وصارت «نجمة شباك» يراهن عليها المنتجون، واستشعر مجدى العمروسى هذا النجاح فى فيلم لصوت الفن «أبى فوق الشجرة»، الذى كان ضربة غير مسبوقة فى تاريخ العرض بدور السينما، وفى عز شهرة نادية لطفى لم تصبها صدمة الشهرة، فلم تتغير ولم تتعاظم ولم تتكلم من أنفها، ولم تشعر أنها من طينة أخرى بل ازدادت تواضعاً وسطوعاً، وقفت نادية لطفى مع شباب الفن وقبلت أن تمثل سيناريوهات ربما تنقصها الحبكة ومردودها بالنسبة لها لم يكن يرضيها، لكن إيمانها بالشباب يتجلى فى عبارتها لى وأنا ألومها على إحدى هذه التجارب، قالت: «إذ لم يجد الشباب فى مصر فرصة هل يجدونها فى إسرائيل؟» حين لعبت دورها فى فيلم المومياء مع شادى عبدالسلام كانت تريد أن يرتبط باسمها شىء من التاريخ ولم يكن ذلك بعشوائية، بل عن «إدراك لدورها كفنانة». إن صداقات نادية لطفى كانت تعكس مكانتها فى المجتمع.
لقد ضمنى عشاء مع سفيرنا فى موسكو وقتئذ، وصلاح أبوسيف وعبدالحليم حافظ، وكنا فى بيتها بجاردن سيتى، لقد عاشت نادية لطفى فى وسط البلد طول مشوارها ولم تسكن «كومبوند» أو فيلل أصحاب الملايين، وهى أصلاً لم تدخر للغد ولا كان لها مشروع تجارى يسندها، كانت شقتها صالوناً للكتاب والسينمائيين، وكانت كريمة فى دعواتها، كان يوسف إدريس يصف بيتها «مجلس نادية لطفى» وكانت تثار فيه تناقشات أدبية فتنسيك أنك فى حضرة فنانة شقراء جميلة، لعل أعظم ما فى بولا أنها لم تكن تدرك أنها مشهورة وجميلة، لقد تعرضت فى وقت ما لمقاطعة إعلامية من صحيفة ما وكانت هادئة فى قبول الأمر، ثابتة على مبادئها، لم تحاول المقايضة أو التنازل، ولم تحاول أن ترد أو تكيد أو تنتقم، أشهد أنها واحدة من قليلات صادفتهن تملك «شرف العداوة» وتحترم الخلاف ولا تفتح جراب العلاقة مطلقاً.
■ حين رحلت السيدة روح شرف عمة بولا، شعرت أنها فقدت صداقة كبيرة وأماً روحية لها وشعرت بالوحدة والبرودة، إنه صقيع من نوع آخر، يزلزل الشخصية ولكنها لا تنكسر، ورغم منغصات العمر لم تقف فنانة فى مصر، موقف نادية لطفى من الفنان جورج سيدهم صديق العمر والمشوار، لقد عاشت أزمات مرضية، ومازالت بنفس الحماس، وقفت بجوار نجوم نعرفهم وربما لا نعرفهم إنها تتصرف - وهى المرأة - بأسلوب الرجال، حتى إن الشاعر الكبير كامل الشناوى لخصها فى عبارة بليغة، قال إنها «نادية ولطفى» إشارة لرقتها وشهامتها، ويوم شعرت بالآلام الحادة كالمسامير فى رأسها كانت «مصر» فى شقتها سافرت للعلاج فى سويسرا، كانت صلاة الناس العادية تطرق باب السماء، وعادت بولا إلى مصر وقد شفيت وعمت الفرحة. إن صديقتها النجمة الكبيرة سميحة أيوب «أم كلثوم المسرح» هى رفقة هذا الزمن وكانت بولا صديقة سميحة أيوب وسعد وهبة، وفى نفس الوقت كانت تربطها بجمال الليثى صداقة، هنا تعطى نادية لطفى لكلٍ صداقتها حتى ولو كان الأصدقاء على خلاف، بولا وسميحة أيقونة صداقة.
■ بولا محمد شفيق، الشهيرة بنادية لطفى، التى تظهر عيناها كإشارة لاسمها الذى يحمل المهرجان هى «امرأة فى الذاكرة»، و«فنانة فى القلب» وهى «نادية ولطفى» و«ريحانة فواحة بالعطر الذى يبقى طويلاً»!
نقلآ عن المصري اليوم
جميع الحقوق محفوظة للأقباط متحدون © 2004 - 2011 www.copts-united.com