بقلم - حنا حنا المحامى
حصلت على شرف لا يدانيه شرف. فقد تنازل الدكتور عصمت مسيحه غبريال استاذ العلاج والتحليل النفسى بالولايات المتحده الامريكيه واهدانى كتابا لا أصفه بأنه ثمين فهو وصف لا يرتقى إلى الحقيقه أو الواقع. واسم الكتاب "القياده المثاليه عند البابا كيرلس السادس والبابا شنوده الثالث".
وسوف أتعرض هنا فى مقتطفات عما كتبه الكاتب عن البابا كيرلس وسأرجئ ما كتبه عن البابا شنوده فى مقال آخر.
والكتاب تحفه رائعه فى الادب والبلاغة، وأكثر ما يثير الانتباه والتساؤل كيف أتى هذا العالم الذى أكمل تعليمه فى الماجستير والدكتوراه فى أمريكا أن تكون اللغه العربيه طوع بنانه بهذه السهوله حتى أن العبارات كنت أقرأها وكانها تنساب من تلقاء نفسها دون كلفه رغم البلاغه التى تنساب طواعيه فى الكتاب
الامر الذى يجعل القارئ لا يملك زمام نفسه وهو يقرأ بل يكون أسير القراءه والافكار والعبارات التى تتدفق منها البلاغه وتشع منها المعانى الساميه النبيله سواء عبر عنها باسلوبه السلس أو لم يعبر. فقد كانت المعانى تتدفق كالزهره التى تفوح بازكى رائحه وهى تتفتح.
لذلك, سوف أتطرق إلى بعض العبارات البليغه المعبره والتى تفصح أن هذا العالم يطبق فعلا -كما يقال- العلم على العمل. بل إنه يطبق العلم حتى يفصح للقارئ معالم مكنون النفس البشريه, وهذه النفس ليست نفسا أو بشرا عاديا بل هى نفس فريده فى قيادتها وفى أهدافها والتى لم تنبع من ملكات كامنه فى الشخصيه فحسب بل هى ملكات أملاها السمو الالهى الذى يفحص القلوب والكلى ويعرف ملكات النفس والقدرات العقليه.
فمثلا يقول عن المؤسسه الكنسيه فى مجال تطوير البيئه.
"إن المؤسسه الكنسيه شأنها شأن أى مؤسسه تنظيميه أخرى, فى ذلك أنها تتسم وتحتويها بيئه معينه ومحددة المعالم تواجه القائد عند توليه القياده. هذه البيئه بمحتوياتها التقليديه والثقافيه والاجتماعيه بل ووعى المنظومه بالرؤيا والهدف, كلها عوامل تملى على القائد الجديد والى حد ما كيفيه استجابته الى التطور المؤسسى وكيفيه إدارته، وأيضا بسبب هذه العوامل قد يتحفز القائد لاقتناص الفرص المهيأه له لتيسير مهامه أو إرجاء بعض منها. وهذه البيئه المناخية فى المؤسسه من شأنها أن توفر أو تعرقل من قدرة هذا القائد على تحقيق أهدافه من خلال سابق وثاقب رؤيته التى تبناها ويعمل على تنفيذها." ص 162
وهكذا نرى الكاتب يتكلم عن عمق الاساليب القياديه ويستدرج فى أن يحللها تحليلا علميا يفيد القارئ مرتين: مره ليدرك القارئ مدى الاهداف العمليه التى يسعى إليها العامل فى المؤسسه الكنسيه ومرة أخرى كيفية الاداره والتى تتمثل فى اقتناص المناخ والفرص.
كما يلاحظ على الكاتب عبارات البلاغه مثل "سابق وثاقب" وهى تعرف فى علم البلاغه "بالجناس". والكتاب ملئ بمثل هذا العبارات التى تشنف الاذن وتمتع القارئ فلا يشعر بأى ملل مهما طالت القراءه.
وليستمتع القارئ بهذا العمل الفريد أود أن اتطرق من آن لاخر إلى مثل هذه العبارات التى تنطلق بصوره تلقائيه تعبر عن مدى التمكن والابداع فى اللغه دون كلفه أو تصنع. كما أن الكاتب يستخدم اللغه ليعبر عما يعتمل فى نفسه من أعجاب مصدره العلم والبحث وليس العاطفه فقط فعباراته توضع مسترسله فى مكانها دون أن تتسم بالتحيز أو المجامله.
ونجد الكاتب بعد أن تعرض لنوعية القياده التى تتأثر بعبارات النفاق والمديح من أجل التوصل إلى مصلحة ما أو منصب معين أو نفع احتمالى أو مؤكد يصف القائد الحقيقى والمثالى بأنه:
"هو الذى التحف بفضيلة الاتضاع وصارت له طبيعه ثانيه فلا ولن تجرفه تسانوميه المديح وتعظيم المبجلين أو جيوش المنتفعين، مثل هذا القائد ليس فقط يتصف بالمثاليه والامانه والنزاهة، بل إنه فى علو مرتبته القياديه يرى نفسه خادما. وإن كان هو فى مقدمة الكل بحكم منصب قيادته إلا أنه تابع وخادم للكل.يعمل من أجل تحقيق أهداف ساميه انتدبته العنايه الالهيه لاجل توفيرها، ولن يتأتى ذلك إلا فى إطار إنكار الذات والتضحيه وبذل النفس على مذبح الحب والعطاء" ص 168.
وهكذا يتعرض الكاتب إلى مزايا التواضع فى عبارات وإن كانت علميه إلا أنها بسيطه وعميقه وسلسه فلا شك أنها تنفذ إلى أعماق القلب والنفس والعقل. ولا شك أنى إذا تعرضت إلى العبارات والمعانى الفنيه والتى تتعلق بالقياده فإنى أحتاج إلى كتاب آخر يعبر عن هذا الكتاب الثمين والرائع. ولذا أكتفى بمقتطفات أرى أنها لازمه للتعبير أو التصوير. ولكن أرى أن الكاتب يطبق علمه العميق وتخصصه الذى يكاد يكون فريدا على شخصيات نعلم جميعا أنها فريده فى كيانها وقداستها وقيادتها.
ويقول الكاتب عن قيادة البابا كيرلس: "هذه القياده الفريده والتخصصيه التحفت بما يعرف فى علوم القياده
Paternalism أى "قيادة الابوه" كما أن قيادة الابوه قد تزودت واختطت لنفسها استراتيجيه خاصه وهذه تعرف بقيادة التعامل الواقعى. Transactional Leadership.
واقترنت بديناميكية القياده التفويضيه. Delegative. 176 ص.
وهكذا نجد أن الكاتب يطبق علمه وتخصصه فى مجال الاداره كعالم من علمائها على حقائق عاشها ولمسها كل الشعب المصرى, إلا أن الكاتب يعزو كل التصرفات والامكانات والمواهب إلى أسس علميه فريده تطرح على القارئ بعمق ولكن فى بساطه وسلاسة.
ومن عبارات البلاغه التى تتسم بالمحسنات البديعيه عبارة "التفويض لا يعنى التفريط" وفى هذا يقول الكاتب: "لئلا يظن البعض أن ديناميكية التفويض تعنى التنازل أو حتى التفريط فى مهام وواجبات ومسئوليات القائد، أو حتى إلقاء أحمالها على من يوكل لهم الامر دون أن يعير القائد اهتمامه بشئونها ومتابعتها. وفى ذلك إجحاف لمعنى التفويض فى مفهوم البابا كيرلس. ولكن التفويض يعنى التنظيم وتوزيع المسئوليات وكفالة الحريه الشخصيه للقائد ليستخدم قدراته ومواهبه وخبراته فى تحقيق الأهداف فى أبعاد الرؤية والغاية التى ينشدها القائد" ص190
وهكدا يستخدم الكاتب مواهبه وعلمه ليطبقه على الواقع الذى هو بصدده, وإن كان لا يفوتنا أن نقول إن البابا كيرلس جدير بهذا التقدير والتحليل إلى أبعد مدى. فقد كان شخصية عامه لا تفرق بين أى إنسان وأى إنسان آخر أيا كانت هويته أو ديانته. وكلنا يعلم ما وصلت إليه علاقته بالرئيس جمال عبد الناصر والذى أعطاه رقم تليفونه الخاص وقال له "إنت زى أبويا بالضمط, واتصل بى فى أى وقت".
ويصور لنا الكاتب ضمن ما كتب واقعه تبين مدى قداسة هذه الرجل وارتباطه بالحياه الاخرى وكيف أنه لا يزال فى صحبتنا على الارض بينما هو راقد ورابض فى عنان السماء. وفى ذلك يوضح الكاتب المثال التالى:
"بعد انتقال قداسة البابا كيرلس السادس تأسست جمعيه أبناء البابا كيرلس السادس فى مصر فى أوائل السبعينات. ثم نمت هذه الجمعيه وبدأت فى نشر أعمال وسيرة البابا كيرلس .... ذكرياته ومعجزاته. وكان أن الهم الرب أبناء البابا فى مصر بضرورة توصيل هذه الكتب والمطبوعات إلى بلاد المهجر. ولكن البعض اعترض على ذلك لاسباب واهيه. لكن البابا كيرلس أظهر ذاته بطريقه معجزيه فقاموا بتلبية رغبة المهاجرين فى أمريكا لتوريد هذه الكتب إليهم بسعر التكلفة" ص192
وهكذا يبين لنا الكاتب إمكانات البابا كيرلس فى عمق النفس بتصوير رائع يساعد القارئ على أن يسبر غور هذا الرجل الاعجازى الذى أحبه المسيحيون والمسلمون وعلى رأسهم رئيس الجمهوريه جمال عبد الناصر نفسه.
ثم يكلمنا الكاتب عن البابا كيرلس وسياسة التحول الخلاق Transformational leadership، فهو يقول: "قيادة التحول قياده خلاقه فى طبيعتها وهى من الاكتشافات الحديثه فى علم القيادات, إذ تبين من خلال الابحاث أن قواد التحول لهم قدرات فوق الطبيعيه. ويمكن لمثل هؤلاء القواد من خلق وإبداع شئ جديد مشوق من هيئة المنظومه العتيقه والمنفره. وذلك بقدرتهم على تكييف المناخ الثقافى والفكرى التقليدى والسياسى. وهذا النوع من الممارسات القياديه تتسم بالتغيير فى إطار التجديد الايجابى." ص 197.
ومن المعروف أن قداسة البابا كيرلس السادس لم يدرس علم الاداره أو القياده. ولكن الدكتوركاتب الكتاب يستخلص مواهب البطريرك ويطبقها على أسمى مراتب العلم الذى تخصص فيه وذلك فى تمكن فذ وعبارات فنيه رائعه رغم بساطتها. ويصور فى النهايه مواهب البابا كيرلس التى كانت تنطلق على سجيتها لانها من المواهب التى أغدقها عليه رب السماوات والارض.
ويقص لنا الكاتب قصة كيف أن هذا القديس كانت قد اختارته العنايه الالهيه منذ نعومة اظافره. فقد كان فى الرابعه من العمر حين زارهم كاهن يدعى القمص تادرس البراموسى وكان عازر (البابا كيرلس) فى الرابعه من العمر. فأخذ يداعب الطفل عازر إلى أن نام على رجليه. فجاءت والدته لتحمله فقال لها الراهب, اتركيه لانه من نصيبنا (ص 201). وكأن الراهب ينظر بعين ثاقبه إلى عشرات السنين المقبله. وهكذا يتجلى اختيار الخالق لخليقته منذ الطفوله.
وبعد ما يشرح الكاتب تأثير التربيه المنزليه على الطفل مما يؤثر على اتزانه النفسى وامتلاك القدرات التى يتعامل فيها الانسان مع واقعه بأفراحه وأتراحه, فى السراء والضراء يجد فى حنان الام وعطف الأب متسعا يعوضه عن حرمانه مما قد يجود به العالم من ماديات. وهكذا يكون التحليل النفسى السليم للامور فالكاتب يسكب من علمه ليصور الواقع العملى تصويرا علميا فريدا.
ويذكر لنا الكاتب واقعه جميله أنه فى الصباح الباكر فى اليوم الذى أجريت فيه القرعه الهيكليه وعند فتح إحدى النوافذ فى مقر أبونا مينا فى مصر القديمه انطلقت إلى الخارج حمامه بيضاء. وكان بين الحضرين كاهن والذى أصبح أنبا إيساك أسقف الغربيه فعلق نيافته قائلا: دى بشرى للخير أبونا مينا, فرد أبونا مينا قائلا "ربنا ما يسمحش". ولكن إرادة الله فوق كل إراده. وفعلا قد كان نعم الاختيار.
وهنا يتعين أن أقف لاسرد قصه عايشتها شخصيا, وهى أنه إبان ترشيح البابا كيرلس وكانت والدتى فى بورسعيد واتصلت بى تليفونيا فى السويس لاقابلها فى القاهره فى عطلة نهاية الاسبوع. وعندما تقابلنا توجهنا إلى الكنيسة وقالت هنا راهب قديس سوف أطلب منه أن يساعدنى فى أمر ما. وفعلا ذهبنا إلى أبونا مينا. وكنت فى ريعان الشباب فقلت له بنشوة الشباب "أبونا مينا الموضوع ده لازم يخلص". وهنا رد على فى بساطة ووداعه ومحبه لن أنساها قائلا: إنت ضابط؟ فقلت له : لأ محامى. وكنت وقتها فى الثالثه بكلية الحقوق. فرد قائلا: إن شاء الله محامى. وأود أن أنقل إلى القارئ العزيز أنى نقلت إلى وظيفة محام فى الشئون القانونيه بشركة مصر للبترول بصوره إعجازيه لا يمكن تصديقها. وبكل الصدق كان من رابع المستحيلات أن يعين مسيحى فى الشئون القانونيه. ولكن دعوة البابا كيرلس وصلت الى السماء التى لا يصعب عليها عسير أيا كان وأينما كان.
وقد شد انتباهى ما ذكره الكاتب عن الكلمه التى ألقاها قداسة البابا كيرلس فى أول رساله رعويه إذ قال: "ما أحوج البشر إلى خدمة الروح فى عصر سارت فيه الماديه والكفر والالحاد والاتجاهات الفكريه المنحرفه. ما أحوج الناس أن يروا المسيح فى حياتنا, ويشتموا رائحته الزكيه فينا. إن على الكنيسه واجبا خطيرا فى هذه الآونه التى يجتازها العالم اليوم. عليها أن تدعم الايمان فى القلوب وتنشر الفضيله." ص 212
ثم يحدثنا الكاتب عن مداخل البابا كيرلس الاعجازيه للمجتمع الانسانى ككل. فهو يحدثنا اولا عن:
التواصل الفردى:
كان البابا كيرلس يتمتع بحنان أبوى عجيب طوق به قلوب الآلاف بل وحشود الملايين. احتضنها فى صدره وضم كل فرد منها إلى قلبه وأنصت لخفقاتهم وأناتهم. كان أول بابا فى جيلنا الحاضر فتح بابه لكل إنسان. كل فرد يستطيع أن يجلس معه ويكلمه بلا مانع أو عائق.
صلة البابا كيرلس مع العالم الروحى والمنظور:
من مذكرات القمص أفامينا تلميذ البابا كيرلس أنه فى ليلة عيد القيامه سنة 1965 كان البابا فى دير مار مينا فى صحراء مريوط. وكان فى جعبته مشاكل أقل ما توصف به أنها مره مما جعله حزينا منكسر القلب وكانت دموعه تنهمر يحاول منعها وطلب إطفاء الانوار واستمر القداس حتى الثالثه والنصف صباحا. ثم سأل القمص أفامينا هل شاهدت الضيوف الذين كانوا فى الكنيسه يا إبنى؟ فأجاب: أين كانوا يا سيدنا وقداستك أمرتهم بمغادرة الدير؟ فأجاب: "لا أقصد هؤلاء بل إن الكنيسه كانت ملآنه يا إبنى حنى أنى لم أجد مكانا لآخر يدخل وهم الذين أمرونى بإطفاء الانوار.." ويقول القمص أفا مينا أن معظم المشاكل التى عرضت على البابا كيرلس قد تم حلها. وهكذا تكون صلة رجل الله بالعالم الآخر عالم الخلود.
تواصل البابا كيرلس المتواصل.
ثم يستطرد الكاتب بكل التواضع ومحاسبة الذات والضمير اليقظ "يحز فى نفسى بل ويؤلمنى ويؤرق منامى كيف أننا عشنا فى زمان هذا القديس ولا يزال البعض منا يخطو فى أعقاب مناهجه ويتعثر على أعتاب مثاله. وحتى الآن نقتات على ألفتات المقروءه من سيرته, لعلنا ننهض لنجاهد كما جاهد, ونبذل كما بذل ونفتح بالحب قلوبنا كما فتح, ونتواصل مع الناس صغيرهم وكبيرهم, بعيدهم وقريبهم كما تواصل, ونتذوق ونتدرب ونتعلم منه فضيلة التواضع كما تواضع."
ثم يسرد لنا الكاتب بعض الوقائع التى ظهر فيها هذا القديس ليشارك الارضيين جهادهم.
وكنت أتمنى أن أشارك القارئ لاكبر شطر من هذا الكتاب الثمين والذى يتسم بأنه ثمار جهد لعالم من علماء علم النفس والطب النفسى, ولكن أكتفى بهذا الشطر لضيق المساحه وأرجو أن أكون قد أشبعت شغف القارئ ولو إلى حد ما. ولكن الحقيقه التى لا تحتمل أى تأويل إنه عملاق يتحدث عن عمالقه.
جميع الحقوق محفوظة للأقباط متحدون © 2004 - 2011 www.copts-united.com