د.عبدالخالق حسين
يُعرف عن النعامة في الفولكلور العالمي، أنها تدفن رأسها في الرمال، كمحاولة منها لتحمي نفسها من الصياد!. ومهما كان غرض النعامة من هذه العملية، سواء للبحث عن الماء كما يعتقد البعض، أو التهرب من الصياد، فالمثل ينطبق على الواقع العربي البائس. فالعرب عموماً يتهربون من النقد، وبالأخص النقد الذاتي في كشف الأخطاء. فالنقد ضروري، إذ كما قال ماركس: "النقد أساس التقدم، ونقد الدين أساس كل نقد".
ولكن العرب والمسلمون عامة ضد أي نقد وبالأخص نقد الدين، الأمر الذي أدى إلى تخلفهم وسهل على الدجالين والنصابين الاستفادة من هذا التخلف، واستثمار الدين للهدم والتخريب، الإرهاب، وحتى تحويله إلى سلاح الدمار الشامل، ليس ضد أعداء الإسلام كما يدعون، بل ضد الإسلام والمسلمين أنفسهم.
مناسبة هذه المقدمة أني نشرت قبل أيام، مقالاً عن كتاب قيم قرأته حديثاً، بعنوان: (آفاق العصر الأمريكي)، للباحث الإماراتي الدكتور جمال سند السويدي، ذكرت فيه بعض المقتطفات من الكتاب، الغني بالمعلومات، وأن المؤلف ذكر ما لأمريكا وما عليها، وأنه (الكتاب) جدير بالقراءة من قبل القراء العرب، لكي يعرفوا موقعهم من الإعراب، كما يقولون!. وأكدت في ختام المقال، "أن مشاكل العالم لا يمكن حلها عن طريق الأحكام العاطفية المسبقة والتمنيات والأفكار الرغبوية، بل بالعلم والمعرفة والتخطيط المسبق".
بعد نشر هذا المقال، وكالعادة في عصر الانترنت، استلمتُ ردود أفعال لعدد غير قليل من القراء الأفاضل، وهذه واحدة من حسنات الثورة التقنية المعلوماتية. ويسعدني أن أقول أن معظم التعليقات كانت إيجابية، وحتى المعارضة منها كانت ملتزمة بأدب الحوار الممتع. وعليه، أرى من المفيد أن أعود إلى بعض هذه التعليقات التي لم تتفق مع ما جاء في الكتاب أو مقالي عنه، إذ اعتبره هذا البعض ترويجاً مجانياً لأمريكا وسياستها العدوانية ضد العرب والمسلمين!!.
في الحقيقة أنا لم أشر فقط إلى النقاط الإيجابية عن الكتاب، بل وأشرت أيضاً إلى بعض النقاط السلبية، مثلاً، اقتبست فقرة تفيد، أن أمريكا لم تسمح لدول العالم الثالث أن تتطور وفق التطور الطبيعي التدريجي، بل تعمل على فرض نموذجها الذي تريده، أي التطور الموجه. كما وذكرت عن استراتيجية أمريكا الثابتة في منطقة الشرق الأوسط، وعلى رأسها أمن إسرائيل، وضمان تدفق النفط، وحماية حليفاتها، وأن سياسة أمريكا تتمثل بمقولة بوش- الابن (من لم يكن معنا فهو ضدنا)... الخ. وبالطيع ليس ممكناً التطرق إلى كل ما جاء في الكتاب في مقال موجز عنه.
أما مسألة الترويج للكتاب، فلا أنكره، لأنه عندما يكتب أي شخص عن كتاب ما، فهو يريد الترويج له، وهذا ليس عيباً، فالكتاب غزير بالمعلومات والإحصائيات والحقائق، جمعها المؤلف من أكثر من ألف مصدر من جهات أكاديمية مختلفة، بمن فيهم خصوم السياسة الأمريكية مثل المفكر الأمريكي نعوم جومسكي وغيره، ونظمها في كتاب واحد بشكل متماسك ومتسلسل، وبلغة سلسلة وجميلة، سهل الفهم والتناول. فما الخطأ في ذلك؟ ويا حبذا لو يقرأه كل عراقي وعربي ليفهم مكاننا في العالم وأين نقف. وحتى لو فرضنا أن أمريكا عدوة لنا، واعتبرنا الكتاب ترويج لها، أليس المفروض بنا أن نعرف عن عدونا لكي نهيئ أنفسنا لمواجهته؟
لعل أعظم ما قاله الرئيس العراقي الأسبق، المرحوم عبدالرحمن محمد عارف، في هذا الخصوص هو قوله عن إسرائيل: (أن العدو يعرف عنا أكثر مما نحن نعرف عن أنفسنا). أليست هذه حقيقة؟ وإلا كيف استطاعت القوة الجوية الإسرائيلية أن تقصف في لحظات مفاعل تموز جنوبي بغداد عام 1981؟
كذلك كتب أحد القراء ما معناه، أنه يجب عدم ذكر مساوئنا في هذه المرحلة العصيبة، لكي لا نفضح أنفسنا أمام العالم وخاصة أمام الأعداء، لأن في ذلك تثبيط لعزيمة الأمة و معنوياتها !!!
أقول: أليس هذا دعوة لتطبيق سياسة النعامة التي أوصلتنا إلى هذا المصير الأسود؟
فهذا الموقف هو الآخر خطأ وضار جداً بمستقبل الأمة، فالعدو يعرف هذه الأخطاء والفضائح أكثر منا، فلماذا حرام على أبناء هذه الأمة النقد الذاتي لتنبيه الأمة عن مساوئها وأخطائها؟ إذ كيف نريد أن نصلح الأوضاع المتهرئة والأخطاء القاتلة ما لم نستخدم سلاح النقد ونشر الأخطاء على الحبل!!. كيف تريدون أن نعالج المرض ونحن نرفض تشخيصه، أو نتجنب التشخيص الصحيح وإخبار المريض بما عنده من أمراض وما يهدد سلامته؟
لقد جمع المفكر المغربي الراحل، محمد عابد الجابري، أخطاء العرب في أربعة مجلدات بعنوان: (نقد العقل العربي)، فهل أراد فضح الأمة وتثبيط عزيمتها وتدمير معنوياتها ؟؟؟؟ عجبي!
طيب، وما هي سياسة أمريكا المعادية للعرب والمسلمين؟ أليست أمريكا وبريطانيا "الكافرتين" هما اللتين أنقذتا مسلمي البوسنة وغيرها من شعوب البلقان من جرائم صربيا المسيحية؟ كما و تفيد الأرقام أن 60% من المساعدات الغذائية للشعوب الفقيرة في العالم الثالث هي من أمريكا.
لنتصور ولو لحظة، كيف كانت عليه حال العرب والمسلمين اليوم لولا الغرب، وخاصة أمريكا وبريطانيا؟ أليست أمريكا وبريطانيا وغيرهما من الغرب "الكافر" هم الذين اكتشفوا النفط في البلاد العربية والإسلامية واستثمروه لصالح الجميع؟ ولولا هذا الاستثمار الغربي لنفط العرب كيف كانت عليه أحوال هذه الشعوب النفطية الآن؟ ماذا عسى هذه الشعوب أن تعمل بثرواتها النفطية الهائلة وهي مدفونة في باطن الأرض دون أن تعلم بها كما كانت الحال في الأزمنة الغابرة، أو لها الإمكانية لاستثمارها؟
إن احتلال أمريكا لموقعها الحالي كقائدة للنظام العالمي الجديد ذي القطب الواحد، هو نتاج ظروف موضوعية فرضتها العولمة وما تتمتبع به أمريكا من قدرات هائلة. والعولمة هي حتمية تاريخية وفق مسار التاريخ، وهي نتاج الثورة التقنية المعلوماتية، فجعلت الشعوب تلتقي وتتقارب، وتولي أهمية أكبر للعامل الاقتصادي ورفع المستوى المعاشي على أي اعتبار قومي آخر، وكل من يقف ضد هذا التيار الجارف سيسحقه التاريخ بعجلاته الثقيلة التي لا ترحم، فمبدأ التطور هو: إما أن تتكيف مع المستجدات أو تنقرض.
أما إذا كان على العراقيين معاداة أمريكا لأنها تدعم إسرائيل، فهذه هي الأخرى سياسة انتحارية، لأننا لا نستطيع وبإمكانياتنا المتواضعة وانقساماتنا هذه أن نغير سياسة أمريكا وإستراتيجيتها في المنطقة. شئنا أم أبينا، إسرائيل وجدت لتبقى، خاصة بعد أن اعترفت بها قيادة الشعب الفلسطيني، لذلك أقول، لا يجوز لنا نحن العراقيين أن نكون فلسطينيين أكثر من الفلسطينيين أنفسهم.
فليس بإمكان العرب، أو محمود أحمدي نجاد أن يمحوا إسرائيل من الخارطة. كان العرب لعشرات السنين، يرددون أنهم (سيلقون اليهود في البحر لتأكلهم الأسماك). ونتيجة لهذه السياسة العدمية، جاءت هزيمة 5 حزيران عام 1967، و صار العرب، وليس اليهود، طعاماً للأسماك.
إن عقلية معاداة الشعوب، وخاصة معاداة أمريكا، الدولة العظمى، التي بيدها الحل و العقد، هي التي أنتجت قادة بلطجية من أمثال صدام والقذافي وبشار الأسد، وبن لادن وأبو بكر البغدادي، وغيرهم من الطغاة الذين قادوا شعوبهم إلى هذا المصير الأسود.
لذلك، أرى من المفيد أن نعيد النظر في مواقفنا من العالم. فسياسة (كل شيء أو لا شيء) دائماً تنتهي بلا شيء، وأفضل مثال هو مصير الفلسطينيين الذين أصروا على (تحرير الأرض من النهر إلى البحر) فانتهوا بلا شيء.
abdulkhaliq.hussein@btinternet.com
http://www.abdulkhaliqhussein.nl/
جميع الحقوق محفوظة للأقباط متحدون © 2004 - 2011 www.copts-united.com