بقلم د. وحيد عبدالمجيد
أربعة رؤساء طغاة أسقطتهم ثورات شعوبهم ضدهم. كان حسنى مبارك هو الثانى بينهم. سبقه زين العابدين بن على، الذى غادر تونس. لم يحذُ مبارك حذوه، وأصر على البقاء فى مصر، فوجد نفسه ماثلاً أمام القضاء. بعدهما بستة شهور سقط معمر القذافى مقتولاً بطريقة بشعة.
وبخلاف مصير القذافى الرهيب، بدا خلفه فى سلسلة الساقطين، وهو على عبدالله صالح، الأفضل حالاً. فقد ترك السلطة فى إطار تسوية سياسية منحته وكبار أعوانه حصانة قضائية وأبقت حزبه لاعباً أساسياً فى المشهد الجديد. وأتاح له ذلك أن يعود إلى هذا المشهد من أبواب خلفية لينتقم من الشعب ويواصل التخريب بطريقة أخرى.
غير أن هذا الذى قد يبدو اختلافاً فى مصائر الرؤساء الأربعة لا يُعتبر كذلك بالفعل إلا فى حالة القذافى. فلا اختلاف فى مصائر الثلاثة الآخرين، وهم الذين تشابهوا فى الاتجاهات العامة لسياساتهم التى قامت على الاستبداد بدرجات متفاوتة، والفساد فى أعلى مستوياته بالمقاييس العالمية، وأدت إلى تجريف المجتمع تعليمياً وثقافياً ومعرفياً وتصحيره سياسياً. كما تشابهوا فى سعيهم إلى توريث السلطة للأبناء، فإن لم يوجد ابن فلا بأس بزوج الابنة فى حالة بن على.
ولما كان القذافى غادر عالمنا ليلقى حسابه على كل ما اقترفه من جرائم بالعدل والقسطاس، بينما غادر بن على تونس ولم يظهر من يومها، فكفى الغاضبين عليه «شر القتال»، فى الوقت الذى يتمتع فيه صالح بحصانة قضائية تحميه من أى محاسبة، فقد صار مبارك هو الوحيد بينهم الذى مثل أمام القضاء ولكن فى جرائم ثانوية وقضايا تفصيلية هى أبعد ما تكون عن الإفساد السياسى والاقتصادى والاجتماعى الذى جعل مصر خراباً مازال أتباعه ينعقون فيه كالبوم بل أسوأ.
ولذلك لم تكن محاكمة مبارك تعنى أنه فى وضع أسوأ من صالح وبن على اللذين لم يُحاكما حتى على جرائم ثانوية. فليس هناك فرق جوهرى بين ثلاثتهم الذين أفلتوا من أى محاسبة على جرائمهم الكبرى. وعندما برأته محكمة الجنايات السبت الماضى بعد أن أدانته سابقتها فى ٢ يونيو ٢٠١٢، بدا أن مصائر الرؤساء الذين أسقطتهم شعوبهم لا تختلف فى شىء باستثناء القذافى الذى لقى حتفه. وإذا كان مبارك محبوساً الآن، فهو مقيم فى مستشفى رفيع المستوى، ويحظى برعاية فائقة، الأمر الذى قد يجعله فى وضع أفضل من بن على الذى يعيش فى قصر ولكن بعيداً عن بلده.
كما أن حبسه لا يحول دون ازدياد نشاط أتباعه من أعداء الثورة لاستغلال الاضطراب الذى ساد البلاد، وبلغ ذروته فى ظل حكم «الإخوان» وتداعياته المستمرة حتى الآن، سعياً إلى تزوير تاريخ لم يصبح تاريخاً بعد.
كما أن محاكمة مبارك، بخلاف بن على وصالح اللذين أفلتا من المحاسبة، قد تُحسب لمصلحته إذا أدخلنا فى المقارنة الفرصة التى أتاحتها له هذه المحاكمة لكى يخاطب المصريين مجدداً ويسعى إلى استغلال بساطة معظمهم وعاطفتهم مرة أخرى فى محاولة لغسل تاريخه المثقل بممارسات خلقت تركة كارثية شديدة الثقل فى كل مجال بلا استثناء تقريباً، وبشهادة من يحملونها الآن وفى مقدمتهم الرئيس عبدالفتاح السيسى.
ولذلك لا يُعد الحبس لفترة قصيرة فى مركز طبى متميز عقاباً يُذكر لحاكم حبس بلده فى سجن التخلف والتدهور، وحكم على نحو نصف شعبه بالموت أحياء فى فقرهم المدقع ومناطقهم المهمَّشة والمقابر التى «يعيش» فيها بعضهم.
وأيا يكون مدى الاختلاف فى مصائر مبارك وصالح وبن على، وهو ما تتباين بشأنه التقديرات على كل حال، فالتاريخ يجمعهم- ومعهم القذافى- فى مكان واحد يقع فى أسفل سافلين. ولذلك يحاول اثنان منهم (مبارك وصالح) وأتباعهما تزوير هذا التاريخ. ولكن هيهات أن يتمكنا من ذلك. فقد حاول حكام كثر قبلهما أسقطتهم شعوبهم، منذ لويس السادس عشر فى الثورة الفرنسية عام ١٧٨٩، الإفلات من حكم التاريخ، ولم يفلحوا. فمحكمة التاريخ هى الأكبر والأهم. وهى لا تحتاج إلى أدلة يمكن حجبها عن محكمة الجنايات، ولا تستمع إلى شهود يمكن أن يكونوا مدلسين، لأنها تملك الأدلة كلها، فضلاً عن كونها شاهدة على ما يقترفه الطغاة كاملا غير منقوص. ولذلك لا تعرف أحكامها- وهى الأبقى أبد الدهر- البراءة حين تحاكم الطغاة. وهذا هو ما يصح أن تعرفه أسر الشهداء الأبرار ويدركه شباب الثورة القابضون على جمرها، وأن يعيه فى الوقت نفسه أعداؤها الذين يستغلون حكم محكمة قضائيا لينهشوا الوطن مجدداً ويدفعوا أتباعهم فى بعض وسائل الإعلام ليُسمّموا الأجواء التى لم تعد تتحمل المزيد من تخريبهم.
نقلآ عن المصري اليوم
جميع الحقوق محفوظة للأقباط متحدون © 2004 - 2011 www.copts-united.com