في ليالي رمضان الجميلة في بلدتي القديمة دمياط، كانت هناك لعبة شهيرة عند الأطفال، أن يحملوا الفوانيس الصغيرة وأن يطوفوا على البيوت ويغنوا أغنية جماعية، طفل منهم يغني منفردا وترد عليه المجموعة، تماما كما يفعل الكورس في المسرحيات اليونانية القديمة، كانوا يردون بجملة واحدة من كلمتين، هما: الله حي. ما أذكره من هذه الأغنية هو: لولا البيت ما إجينا (ما جئنا)، فيرد الكورس: الله حي.
يفك كيسه ويدينا.. الله حي.
ألفين ريال ما يكفينا.. الله حي.
فيخرج لهم أصحاب البيت ويعطونهم ما تيسر من الحلويات التي لا يخلو منها أي بيت في شهر رمضان. نفس اللعبة يلعبها الأطفال في سويسرا في بعض المناسبات. أنا أعتقد أن هذه اللعبة الجميلة اندثرت بعد أن أصبحت السكنى في بيت أمرا بعيد المنال، وبعد أن أصبح قدر البشر أن يعيشوا في علب إسمنتية يسمونها الشقق، وربما يكون السبب هو أن أطفالنا لا يجدون من يشجعهم على اللعب.. هناك دائما الصيحة المرعبة: «روح ذاكر يا ولد».
ما يهمني هنا هو وحدة اللاوعي الجمعي الذي أنتج نفس اللعبة عند الأطفال السويسريين والأطفال الدمايطة. وهو ما يؤكد ما ذهب إليه عالم النفس الشهير «يونغ» من أن البشر جميعا لهم لا وعي واحد. هذا اللاوعي الجمعي هو الذي أنتج الحواديت الجميلة في ألف ليلة وليلة، وأيضا الحكايات الإغريقية القديمة. هذه الحواديت المسلية ليست أكثر من رسائل مشفرة يرسلها لنا اللاوعي الجمعي عند أجدادنا لكي نحل شفرتها. ففي أسطورة أوديب على سبيل المثال، نجد وحشا هائل الحجم يقف على أسوار مدينة طيبة يلقي ألغازا على المسافرين، ويلتهم كل من لا يعرف الحل. هذا الوحش سيموت عندما يقدم له أحد الإجابة الصحيحة. كما ترى هو يفرض حصارا على المدينة ويمنعها من التواصل مع بقية البلاد، بالإضافة بالطبع لما يسببه من رعب لسكان المدينة.
من العبث أن تدرس العلوم السياسية بمعزل عن المعرفة بالحواديت الشعبية القديمة. الأسطورة هنا التي مجدها سوفوكل في مسرحيته أوديب، تقول إن كل مدينة ومدنية عرضة لأن يظهر وحش عند أسوارها ويبدأ في الفتك بمواطنيها. والطريقة الوحيدة لقتله هي المعرفة، معرفة الإجابة عن أسئلة العصر ومن بينها أسئلة الوحوش. هذا الوحش له أسماء كثيرة ربما يكون أحد هذه الأسماء هو «داعش». أليس هذا هو ما تفعله بالضبط في البلاد التي تقع في أيديها..؟
ألا يحاصرون البشر ثم يفتكون بهم على مهل؟ أليس هذا هو بالضبط ما تقوله مسرحية أوديب؟
بالمعرفة نهزم الوحوش. بالمعرفة - بعد قوة السلاح - سنجيد الرد على كل الألغاز، وبذلك تكون مهمتنا الأساسية هي التعليم الذي يضمن لأطفالنا تحقيق المعرفة، ألا نسمح بتعليم أطفالنا الجهل. علينا أن نعلمهم أنهم متساوون في الحقوق والواجبات مع أطفال العالم كله، وأن الله سبحانه وتعالى خلقنا جميعا - بكل أدياننا ومذاهبنا وطوائفنا - لندافع عن الحياة ونعمل على ازدهارها، وأن عليهم أن يحترموا الدولة، لأنها الضمانة الوحيدة للحياة والحرية في مواجهة الوحوش التي تظهر خارج أسوار المدينة أو تظهر فجأة بين ظهرانينا.
نقلا عن الشرق الاوسط
جميع الحقوق محفوظة للأقباط متحدون © 2004 - 2011 www.copts-united.com