د.عبدالخالق حسين
في اللغة الإنكليزية كلمة (Gullible) ومنها (Gullibility)، وتعني الشخص الساذج البسيط، الطيب السريرة الذي يصدق كل ما يقال له ويتلقاه من أخبار مهما كانت كاذبة وغير معقولة وتفتقر إلى أدلة مادية، أو عقلية. وهناك كلمة أخرى (suggestible) و (suggestibility)، وتعني الاستعداد الذهني أو النفسي عند الشخص للتأثر بإيحاءات الآخرين، وجميع هؤلاء معرضون للخديعة بسهولة.
و المؤسف أن هذه الصفة، (سرعة التصديق وتقبل الإيحاء) متفشية بين العراقيين بنسبة عالية منهم رغم أنهم يعتقدون، ويؤكدون على الدوام، أنهم (مفتحين باللبن، ويقرؤون الممحي، وما بين السطور)، ولكن في الحقيقة أنهم من أكثر الشعوب عرضة للخديعة والتصديق بالشائعات الباطلة ومهما كانت غير معقولة، ولذلك نرى هذا الشعب ضحية الإشاعات، والافتراءات في مختلف العصور والعهود.
وقد عرف قادة البعث، ومن يدعمهم، هذه الخاصية في الشعب العراقي، فاستغلوها أبشع استغلال، لذلك استطاعوا حكمه لخمسة وثلاثين سنة، أهلكوا فيها الحرث والنسل، وهم يرقصون له ويهتفون: (بالروح بالدم نفديك يا صدام). كما واصل البعثيون تضليل هذا الشعب بعد سقوط حكمهم الجائر، ومع الأسف الشديد حققوا نجاحات باهرة في التضليل وتفتيت المجتمع العراقي وتبديد طاقاته.
عوامل ساعدت على نجاح البعثيين في التضليل
1- كما ذكرنا أعلاه، ذهنية الشعب العراقي، القابلة لتصديق الإشاعات والدعايات المضادة، خاصة إذا كانت موجهة ضد السلطة. فنتيجة لما تعرض له الشعب العراق من مظالم عبر تاريخه الطويل، وبالأخص في العهد العثماني الغاشم، صارت معاداة الحكومة جزءً من ثقافة الشعب الإجتماعية أو الموروث الاجتماعي (culture)، وشرطاً من شروط الوطنية، حتى ولو كانت هذه السلطة منتخبة من قبل الشعب نفسه. وعرف البعثيون هذه الخاصية، لذلك عندما اغتصبوا السلطة لم يبالوا بمشاعر الناس إزاءهم، فاستخدموا معهم سياسة القبضة الحديدية، وجعلوه غير صالح إلا لهذا النوع من الحكم.
2- الخبرة في التضليل: أرسلتْ حكومة البعث الألوف من البعثيين في بعثات دراسية إلى الغرب في مختلف الاختصاصات، مثل: علم الاجتماع، وعلم النفس، وعلم النفس الإجتماعي، والأنثروبولوجيا، والإعلام... الخ. فالخبرات العلمية سيف ذو حدين، يمكن استخدامها للخير والشر. ففي الانظمة الديمقراطية والظروف الطبيعية يمكن توظيف هذه العلوم والخبرات لخدمة الشعب و وحدته وسعادته، ولكن العكس حصل في حكم البعث، حيث استخدم هؤلاء خبراتهم للسيطرة على المجتمع، وتضليله، و تجهيله، وتفتيته، و قولبته بما يلائم أيديولوجيهم الشريرة، ومنع الإنسان العراقي من التفكير السليم، والتعبير الحر عن آرائه، مما أدى إلى شل قدراته العقلية، وبذلك يسهل عليهم السيطرة عليه، وزرعوا في روعه أن حكم البعث باق إلى الأبد كالقدر المكتوب، ولا خلاص لهم إلا أن يستسلموا لإرادته ويتكيفوا معه. وفي نفس الوقت شنوا حملة بتشويه صورة معارضيهم، وإبرازهم وكأنهم أشرار، ودون مستوى البشر، وتجريديهم من الصفات الإنسانية، وأنهم لا يستحقون الحياة، لتبرير اضطهادهم و إبادتهم. وهي نفس السياسة التي تتبعها تنظيمات الإرهاب الإسلامي الوهابي مثل القاعدة وطالبان، وداعش، وجبهة النصرة، وبكو حرام ، وغيرها من العصابات الإرهابية الإسلامية الوهابية المعادية للحضارة والإنسانية.
3- استثمر البعث التناقضات والصراعات في المجتمع العراقي مثل الطائفية وعمل على تأجيجها، تضخيمها، وطرح نفسه الممثل الشرعي الوحيد للسنة العرب، وراح يشعل الفتن الطائفية بصراحة غير معهودة من قبل، وبمنتهى الوقاحة، وشن حملة تشويه ضد الشيعة، و تسقيط رموزهم السياسيين، والمبالغة بحجم الفساد وإلقائه على عاتق السياسيين الشيعة في السلطة وحدهم دون غيرهم.
4- اتبع الكتاب البعثيون أساليب شيطانية خبيثة في الدعاية المضادة وصناعة الإشاعة، وذلك بالكتابة تحت أسماء مستعارة، والهجوم على السياسيين الشيعة وتسقيطهم بكتابة مقالات بأسماء شيعية للتضليل، فيبدأ الكاتب بذكر فضائل الإمام علي وتاحسين، وما حل بأهل البيت من مظالم، ويظهر نفسه وكأنه حريص على مصلحة فقراء الشيعة!، فيذرفون عليهم دموع التماسيح، وما لحق بهم من ظلم وفقر على أيدي ممثليهم "الحرامية" في السلطة!!! ونجحت حكومات خليجية، وخاصة السعودية، في شراء ذمم كتاب شيعة لإشراكهم في شن الهجوم على السياسيين الشيعة دون غيرهم وتحميلهم مسؤولية الفساد والإرهاب والمحاصصة الطائفية في السلطة... وكل مشاكل العراق المتراكمة عبر قرون.
5- كما و تفنن البعثيون في صياغة الأخبار والتقارير الكاذبة والمقالات الملفقة بمنتهى المهارة والخبث، مستفيدين من التكنولوجيا المتطورة في التقنية المعلوماتية مثل برنامج (الفوتوشوب) لتلفيق وثائق وصور مزيفة، وإظهار أكاذيبهم بالموثقة، إلى درجة أنههم في تمريرها حتى على الأكاديميين والمثقفين والوطنيين المخلصين ناهيك عن الناس البسطاء، ولا أدعي أني محصن ضد هذه الإشاعات والأحابيل. وعلى سبيل المثال لا الحصر، يتذكر كثيرون ما نشر قبل عامين عن طريق الإيميلات، إشاعة مفادها أن حكومة المالكي دعت الوحدة الأوربية لبناء مكب للنفايات النووية لهم في العراق.
ومثال آخر الذي نجح البعثيون في دفع أكادميين إلى تصديقهم، حيث استلمت تقريراً تأثر به أستاذ جامعي محترم، وهو من ضحايا البعث، فقام بدوره بتعميم هذا التقرير و مفاده أن 50% من سكان محافظة البصرة مصابون بالسرطان بسبب تلوث التربة باليورانيوم المخضب، دون أي يشيروا إلى مسؤولية نظام البعث الصدامي الذي زج بالعراق في حروب عبثية مع إيران، ومع المجتمع الدولي في حرب تحرير الكويت ومن ثم تحرير العراق...الخ.
على أية حال، أجبت الأستاذ الفاضل أن هذا الخبر لا بد وأن يكون ملفقاً ولأغراض سياسية. فإذا صدقنا به، فهذا يعني أن نحو مليون إنسان مصاب بالسرطان في البصرة حيث يبلغ نفوس المحافظة نحو مليونين. وإذا اعتمدنا الإحصائيات، فخلال خمس سنوات سيموت أكثر من نصف هؤلاء المصابين كما وتظهر سرطانات في 50% من غير المصابين حالياً، وهكذا فبعد 20 أو 30 سنة ستخلو محافظة البصرة من سكانها. فهل هذا الكلام علمي ومعقول؟ ولو كان الخبر صحيحاً بوجود مليون إصابة بالسرطان في محافظة واحدة، فلماذا لم تتحرك منظمة الصحة الدولية، ووكالات الأنباء وهي التي تقيم الدنيا في حالة تفشي أي وباء في أي مكان من العالم مثل انفلونزا الطيور وإيبولا غيرهما؟
والجميل في الأمر، أن الأستاذ الذي استلم ردي أيدني حالاً، وأدرك أن بث هذه الأخبار لأغراض سياسية ليس إلا. في الحقيقة هناك تقارير تفيد أن نسبة الإصابة بالسرطانات والتشوهات الولادية في العراق لا تختلف عنها في أي مكان آخر في العالم.
وليت الوقوع في فخ الخديعة توقف عند هذا الحد، بل تعداه حتى إلى رئيس الوزراء السيد حيدر العبادي وهو يسعى لمحاربة الفساد، و المفترض به أن يكون قوياً في الرياضيات لكونه يحمل شهادة دكتوراة في الهندسة الالكترونية من جامعة بريطانية عريقة، ولكن مع ذلك فشل في هذا الامتحان عندما قدموا له رقم (50 ألف جندي فضائي- شبحي، أي وهمي) في أربع فرق عسكرية، فسارع في نشر "الفضيحة" دون تدقيق، علماً بأن ملاك أربع فرق عسكرية لا يزيد عن 49 ألف عسكري، أي أقل من عدد الفضائيين. أليس هذا استغفال وسقوط في الفخ يا دولة الرئيس؟
كان كاتب تقرير أمريكي أكثر تحفظاً حين ذكر عن التغيب في القوات المسلحة العراقية عند سقوط الموصل فلم يذكر رقماً، بل أعطى نسبة مئوية، فقال هناك فرق عسكرية وأجهزة أمنية فيها نسبة التغيب تصل إلى 30% وهم يستلمون رواتبهم. وهذا التعبير أقرب إلى الواقع والمصداقية.
كما تكونوا يولى عليكم
و يحاول بعض الكتاب إلقاء اللوم على من تضعه الأقدار في قيادة السلطة ليحمِّلونه مشاكل العراق المتراكمة عبر قرون، ومنها الفساد والإرهاب والصراعات العرقية والطائفية والعشائرية، ويقولون مثلاً: لماذا لا يكون في العراق زعماء مثل زعماء دول نجح رؤساؤها في قيادة بلدانهم من التخلف إلى مستوى متقدم في الحضارة والإستقرار والازدهار الاقتصادي؟ لماذا لا يظهر نلسن مانديلا عراقي مثلاً؟ نسي هؤلاء الأخوة، سامحهم الله أن الأحزاب وزعمائها، والحكومات و رؤساءها، هم إفراز ونتاج شعوبهم، إذ تفيد الحكمة: (كما تكونوا يولى عليكم).
وعلى سبيل المثال، ينقل في هذه الأيام عن الرئيس الماليزي السابق، السيد مهاتير محمد عن سبب نجاحه في جهوده لبناء بلده أنه قال: "عندما أردنا الصلاة إتجهنا صوب مكة، وعندما أردنا بناء البلاد إتجهنا صوب اليابان". وكتب الصديق، الدكتور محمد علي زيني، مقالاً في هذا الخصوص بعنوان: (متى يحكم العراق رجل مثل مهاتير محمد؟). فأجبت الصديق: (يحكم العراق رجل مثل مهاتير محمد عندما يكون في العراق شعب مثل الشعب الماليزي، وليس شعب ممزق إلى طوائف وأعراق متناحرة ومتصارعة، فمهاتير محمد هو نتاج شعبه، ولو كان قد وُلِد ونشأ في العراق لما سمع به أحد). فأيدني الصديق قائلاً: (شكراً على التعليق. أتفق معك، ونحتاج الى جيلين جديدين بتعليم حديث ومركز حتى نرى شعباً أفضل مما عندنا الآن).
كيف تريد لرئيس حكومة أن ينجح في عمله ويقدم البلد، وهو مكبل اليدين، ويُفرض عليه وزراء ولاؤهم لقادة كتلهم وليس للحكومة ورئيسها، وهدفهم في المشاركة في الحكومة هو إفشالها وشلها عن عملها؟
ومن كل ما سبق نفهم أن الشعب كله مسؤول عما يجري في العراق. فهناك من يقول إن داعش هو مستورد من الخارج، وهذا خطأ. نعم، هناك نسبة قليلة من الدواعش الوافدين من الخارج، ولكن نسبتهم لا تزيد عن 10%، أما الـ 90% فهم إنتاج محلي وبالأخص من البعثيين الذين تظاهروا
بالإسلاموية. وإذا تريد الدليل المادي فما عليك سوى مشاهدة الفيديو القصير (الرابط أدناه) ، وكيف قتل الدواعش جنوداً عراقيين، في ناحية يثرب، و هجم أهل المنطقة وحتى أطفالهم وهم يركلون جثث الشهداء الذي ضحوا بحياتهم في سبيل تحريرهم من الدواعش.(1)
دعوة لتصفية المالكي
لقد حصل في الآونة الأخيرة تصعيد حاد لهجمة شرسة ضد السيد نوري المالكي لتصفيته سياسياً واجتماعياً وحتى جسدياً، من أطراف عديدة، وجرّوا إليها أناس لا يشك في وطنيتهم من أصحاب النوايا الحسنة الذين صدقوا بهذه الدعايات المضادة، إذ نقرأ على سبيل المثال العناوين التالية:
* (المطالبة بمحاكم المالكي وتحميله مسؤولية احتلال الموصل من قبل داعش).
والكل يعرف أن الذين تآمروا لتسليم المحافظات الغربية إلى داعش، هم الأخوين النجيفي ومن لف لفهما من إداريين في هذه المحافظات، وبتنسيق من جهات دولية وإقليمية واسعة، ودفعوا الثمن فيما بعد.
* (تحقيق خطير يكشف بالوثائق كيف فاز نوري المالكي في الانتخابات العراقية الاخيرة)،
*( محاولة محاكمة الرئيس المالكي من خلال الإدعاء بوجود مقاتلين فضائيين)(2)
* مقال نشرته إيلاف السعودية بعنوان: (المالكي فشل في إطلاق ابنه وأمواله المحتجزة في لبنان) والذي ردينا عليه بمقالنا الموسوم: (لماذا "فشل" المالكي في إطلاق ابنه وأمواله المحتجزة في لبنان؟)(3).
* وأخيراً وليس آخراً، وصلني فيديو قصير لمظاهرة في إحدى مدن الوسط، تطالب رئيس الوزراء الحالي حيدر العبادي، بإعدام رئيس الوزراء السابق نوري المالكي!!!!!! فهل هذا الشعب قابل للحكم؟
خلاصة القول: نحن أمام شعب من الصعب جداً حكمه، لأنه سهل التصديق بالإشاعات والافتراءات والأكاذيب،(على حس الطبل خفّن يرجلية!)، يواجه عدواً يتمتع بإمكانيات هائلة وخبرة واسعة في الخبث والتضليل، لا يقيم وزناً لحياة الإنسان ولا الأخلاق والقيم. وفي هذه الحالة فهل من الصحيح أن يبقى المثقفون على التل متفرجين لتتكرر جريمة 8 شباط 1963، وإدخال البلاد مرة أخرى في نفق مظلم، ودورة جديدة من العنف والقتل والتهجير، والتشريد، والحروب العبثية، والدمار الشامل؟ أم نقوم بواجبنا لتنبيه الناس أن يعوا أبعاد المؤامرة الخطيرة، واللعبة الشيطانية التي تحاك ضدهم؟
أعتقد أن من واجب المثقف أن يلعب دوره الوطني والإنساني لمواجهة المؤامرة الشريرة، إذ كما قال مارتن لوثر كنغ: "المصيبة ليس في ظلم الأشرار، بل في صمت الأخيار".
ـــــــــــــــــــــــــــــــ
1- قتلى ميليشيات العدو [الصفوي] بمعارك ناحية يثرب ومحيطها
http://www.dhiqar.net/Vid.php?id=6614
2- محاولة محاكمة الرئيس المالكي من خلال الإدعاء بوجود مقاتلين فضائيين
http://www.akhbaar.org/home/2014/12/181813.html
3- عبدالخالق حسين: لماذا "فشل" المالكي في إطلاق ابنه وأمواله المحتجزة في لبنان؟
http://www.abdulkhaliqhussein.nl/?news=699
جميع الحقوق محفوظة للأقباط متحدون © 2004 - 2011 www.copts-united.com