لعل بلداً من بلاد الأرض لا تصدق على حضارته صفة الاستمرار كما تصدق على مصر، وفى العصر المسيحى قادت مصر حضارة البحر المتوسط، واحتلت مكانها بين بناة عمرانه ثم كانت الحضارة الإسلامية، وأسهمنا فيها بالنصيب الذي هيأته لنا ملكاتنا وتجاربنا في الحضارات، كما سجل حسين مؤنس فى مصر ورسالتها. لكن تاريخ مصر- فى طريقة كتابته- فصول لا تكاد تجمعها صلة، وحقيقة هذا التاريخ، وليس يعرف تاريخ غيره بهذا الامتداد والاتساع، أنه قصة واحدة طويلة بطلها واحد هو الشعب المصرى، ولم تستطع كل الأرزاء والإحن، وخاصة فى الحقبة المسيحية، أن تقضى على القومية المصرية، كما سجل حسين فوزى فى سندباد مصرى.
وليس المصريون الحاليون مؤلفين من شعوب مختلطة، وإنما هم شعب واحد، وقد وجد الطابع الجنسى العام للمصريين قبل أن يكون هناك أقباط أو مسلمون، واستطاعوا رغم الاختلاط أن يبقوا على الدوام أمة واحدة، . وحين دخلت المسيحية مصر أو دخلت مصر المسيحية، لم يكن ذلك إلا استجابة واستمراراً للتدين العميق الذى تأصل فى طبيعتها. وقد لعبت مصر القبطية دوراً حاسماً، حتى قيل إن تاريخ المسيحية فى القرون الخمسة الأولى ليس إلا تاريخ الكنيسة القبطية، وإنه ما من بلد أثر فى انتشار المسيحية بأعمق مما فعلت مصر، كما سجل جمال حمدان فى شخصية مصر.
وبعد هذا الإيجاز، وفى حدود ما يتسع له المقال، أُفصَّل بعض ما أبرزت من مؤلفات مصريين مسلمين، درسوا تاريخ مصر فى وحدة عضوية لم تغفل فصلا رائعا منه وهو تاريخ مصر المسيحية. وأورد أولا، ما سجله حسين مؤنس، يقول: إن المسيحية وجدت التربة الصالحة فى وادى النيل، وعلى بلدنا وفدت السيدة العذراء مريم مع ابنها المسيح هاربة من ظلم هيرود، ثم أقبل بعض الحواريين إلى بلادنا فوجدوا القلوب ممهدة لتلقى تلك الرسالة السماوية، فكثر المسيحيون في مصر. وأقبل الحوارى مرقص، فأنشأ الكنيسة المرقصية في الإسكندرية، وهى التى انتقلت إليها زعامة المسيحية كلها، وكتب أبلغ الأناجيل أسلوباً وأوفرها حكمة. وقد نهضت كنيسة الإسكندرية فى القرنين الرابع والخامس الميلاديين تنافح عن العقيدة القويمة، وظهر فيها أحبار أجلاء بهروا الدنيا بعلمهم وصلابتهم فى الحق، وكان لهم فى بناء الحضارة العالمية نصيب كبير، وأطلعت رجالات يعدهم الغرب من بناة حضارته، وأنجبت مفكرين يذكرهم الفكر الأوروبى بالإجلال. وعلى طول تاريخ مصر، لم يتغير فيها الدين إلا مرتين، ولم تتغير اللغة إلا مرتين أيضا، بينما أسبانيا، التى يرجع تاريخها إلى 2500 سنة، تغير الدين خلالها ثمانى مرات واللغة ست مرات، ولم يتغير جنس المصريين إلا تغيرات طفيفة.
وأشير ثانيا، لما أبرزه حسين فوزى، يقول: إن المصرى المسلم يعتبر العصور السابقة على الإسلام كأنها تاريخ شعب آخر انتهى أمره؛ ويبدأ تاريخ مصر بالفتح الإسلامى، بينما يبدأ المصرى المسيحى تاريخ مصر بكرازة مرقص الرسول. وقد ظلت الحقبة المسيحية تعيش فى شبه ظلام تاريخى، وهى حقبة رهيبة ورائعة فى آن واحد، قدمت أروع صور المقاومة الوطنية للمصريين. والذى لا يعرفه إلا قلة من المصريين- وما أقل المصريين معرفة بتاريخهم- أن أجدادهم القبط تعذبوا واضطهدوا على يد حكام بيزنطة المسيحيين بأشد مما عرفوا أيام الأباطرة الوثنيين، فلم يكن الأمر مجرد خلاف فى العقيدة، بل كانت روح مقاومة وطنية، أملت ترجمة الأناجيل للغة القبطية، فحافظت على اللغة المصرية القديمة مكتوبة بحروف يونانية، واتخذت مظهراً إيجابياً فى ثورات أغرقها المحتل فى دماء مذابح وحشية.
وأختم، رابعا، بما وثقه سليمان حزين، يقول: إن زعم أن الأقباط أصدق تمثيلاً لسكان مصر الأصليين من المسلمين، الذين تأثروا بالعنصر العربى، يحتاج لأن يُصحح، لأن الطابع الجنسى العام للمصريين قد وجد واتخذ صورته المميزة قبل أن يكون هناك أقباط أو مسلمون، فى عصر ما قبل الأسرات الفرعونية. ولم تكن الغالبية الساحقة من المسلمين فى مصر غزاة، وإنما هم فى الأصل أقباط تحولوا إلى الإسلام بالتدريج، حيث احتفظت الكنيسة القبطية بقوتها وأتباعها الكثيرين إلى أن لحقها الركود ونخرتها الخلافات الفردية والطائفية، فضعفت فى القرن الثالث عشر ضعفاً ظاهراً كان من نتيجته تحول أفواج كثيرة من الأقباط للإسلام. وقد أفاد المصريون من الاختلاط، لكنهم استطاعوا على الدوام أن يبقوا أمة واحدة، واستطاعت مصر دائماً أن تدمج الوافدين فيها، بما فى ذلك العرب النازحون.
وأوجز، ثالثا، ما سجله جمال حمدان فى شخصية مصر، يقول: حين دخلت المسيحية مصر أو دخلت مصر المسيحية، كانت القبطية هى النسخة المصرية من المسيحية، ومن مصر أتت أهم فنون العمارة المسيحية المبكرة؛ وبالمثل فن الأيقونات والزخارف والنقوش.. الخ. وحين تعرضت مصر للاضطهاد الرومانى الوثنى، خرج الأب باخوم والأب أنطوان إلى الصحراء يلجأون إليها من الاضطهاد الدينى ويحافظون فيها على عقيدتهم؛ فكانت الرهبنة والأديرة هدية مصر القبطية إلى المسيحية الغربية والعالمية. ولعبت الكنيسة القبطية والرهبنة دوراً مهما فى الكفاح ضد الاستعمار الرومانى البيزنطى، أصبحت فيه المسيحية والقبطية رمزاً وتعبيراً عن القومية والمصرية، بل كانت الرهبنة نوعاً من المقاومة الوطنية السلبية. وقد جب تعدد الأديان التعصب الدينى فى مصر، حيث تعاقبت وانتهت للتعايش، وصار التسامح ضرورة حياة.
وتبقى حقيقة أن معظم المسلمين المصريين اليوم إنما هم معظم القبط المصريين الذين أسلموا بالأمس، وأن معظم مسيحيى اليوم هم بقية قبط الأمس الذين استمروا على عقيدتهم السابقة؛ وقبل أخوة الدين والعقيدة، وعوضاً عنها، هناك أخوة الوطن والعرق، فالكل مصريون قبل الأديان وبعدها فالنيل أبوهم ومصر أمهم.
نقلا عن الاهرام
جميع الحقوق محفوظة للأقباط متحدون © 2004 - 2011 www.copts-united.com