ليس لدىّ أى مشاعر عدائية ضد القطاع الخاص، كما أنى مستعد تمام الاستعداد للاعتراف بكثير مما يوجه للقطاع العام من انتقادات، لكن التعصب مكروه فى جميع الأحوال، ونحن للأسف نصادف الكثيرين من المتعصبين من كلا النوعين.
التاريخ الاقتصادى، وكذلك تأمل التجارب الاقتصادية الجارية حالياً فى مختلف البلاد يؤكدان أننا نحتاج دائماً إلى تضافر النوعين من النشاط: النشاط المدفوع بالحافز الخاص لتحقيق الربح أو المنفعة الشخصية، والنشاط المدفوع بتحقيق مصلحة المجتمع ككل عندما لا يوجد من الحوافز الفردية ما يحققها، أو المدفوع بحماية المجتمع ككل عندما يشتط الحافز الفردى فى التضحية بالصالح العام من أجل مصالح أنانية حقيقية. كذلك تدل تجارب التنمية فى التاريخ، فى مختلف الأمم، على أن القطاع الخاص يكون أقدر على تحقيق التنمية المرجوة دون تدخل من الدولة فى ظروف تاريخية معينة، بينما يكون القطاع العام (أو على الأقل تدخل الدولة لتقييد النشاط الخاص) هو الأقدر على تحقيق هذه التنمية المرجوة.
إن تجاهل هذه الحقيقة (أى اختلاف المطلوب عمله باختلاف الظروف التاريخية) كثيراً ما يجعلنا نصدر أحكاماً شاملة وخاطئة على بعض التجارب بأنها تدل دلالة قاطعة على أفضلية الاعتماد على القطاع الخاص بوجه عام (كما ذهب مثلاً كثيرون فى تقييمهم للتجربة السوفيتية بعد سقوطها، أو فى تقييم التجربة الناصرية بعد توقفها بحدوث هزيمة ١٩٦٧). أقول إنها خاطئة لأن هذه الأحكام تنكر بغير حق الإنجازات الكبيرة التى حققتها هذه التجارب (السوفيتية والناصرية مثلاً) فى فترة تاريخية معينة، ولاتزال تجلب ثماراً طيبة حتى الآن، رغم أن تغير الظروف ألقى ضوءاً مختلفاً على ملاءمة استمرارها.
على الجانب الآخر يقع الكثيرون من الاشتراكيين (والماركسيين على الأخص) فى خطأ التقليل من دور الحافز الفردى فى إحداث النهضات التكنولوجية والثورات الصناعية، الواحدة بعد الأخرى، وفى خطأ التنبؤ، كلما مر النظام الرأسمالى بأزمة، بأن هذه هى النهاية الحتمية لهذا النظام، أو بالقول إنها تدل على أن الرأسمالية تمر بمرحلة احتضار، وإن كان هذا الاحتضار لا يبدو أنه يتم أبداً.
لقد أخطأ فوكوياما فى استنتاجه من سقوط النظام السوفييتى فى ١٩٩١، بأن هذه هى «نهاية التاريخ» (التى تثبت أفضلية النظام الرأسمالى)، كما أخطأ بعض الكتاب الاشتراكيين فى أوروبا والولايات المتحدة فى الاستنتاج، عندما وقعت الأزمة المالية العالمية فى ٢٠٠٨، بأنهم كانوا على صواب فى توقع نهاية الرأسمالية. الحقيقة ليست بهذه البساطة.
إذا صحت هذه النظرة فإن إحدى نتائجها ألا ننزعج إذا اقترح أحد أن نقوم بخصخصة بعض المشروعات العامة، إذا استطاع أن يثبت عجزها وقلة كفاءتها أو تحول أرباحها إلى خسارة، وأن الحل غير ممكن إلا بإعادتها إلى الملكية الخاصة، أعتقد أن مثل هذا يصدق الآن، على سبيل المثال، على كثير من المشروعات التى أممها النظام الناصرى دون مبررات اقتصادية (كدور السينما والفنادق والمتاجر... إلخ). ربما كان الدافع إلى تأميمها فى الستينيات سياسياً وليس اقتصادياً، ولكن ليس هذا محل البحث الآن، المهم أن هذه المشروعات لا يمكن أن تستعيد دورها وكفاءتها إلا بخصخصتها.
هناك من ناحية أخرى، مشروعات صناعية جرى تأميمها فى هذه الفترة أو أنشأها من الأصل القطاع العام، وحققت نتائج طيبة فى ظل الملكية العامة (كصناعة الألومنيوم والحديد والصلب) وإن كانت قد صادفت متاعب بعد ذلك، فإن العلاج الأمثل ليس بالضرورة تحويل ملكيتها العامة إلى خاصة، بل قد يكون فقط تغيير نظام الإدارة. على أى حال، مهما اختلفنا فى تحديد نوع الإصلاح الأمثل فى كل حالة على حدة، فإننا يجب أن نرفض ابتداءً «الحل الأيديولوجى» أى المبنى على الاعتقاد بأن كل ما هو عام سىء، وكل ما هو خاص جيد، أو العكس.
ولكن خطراً حقيقياً يواجهنا، بصرف النظر عن خطر الموقف الأيديولوجى الجامد، عندما يأتى وقت تهب فيه «عاصفة من الخصخصة»، مدفوعة بقوة عارمة، نشأت فى مكان ما من الكرة الأرضية، وتسعى لاجتياح المشروعات العامة فى أى مكان فى الأرض، أو فى منطقة معينة من العالم، بسبب تغير الظروف فى البقعة التى نشأت فيها، أو بتغير الظروف السياسية والاقتصادية فى العالم، ولكن بصرف النظر عما إذا كان من مصلحة أصحاب المشروع المطلوب خصخصته، أن تحدث هذه الخصخصة أو لا تحدث.
إنى أعتبر أن «ظاهرة الاستعمار» التى اجتاحت دول أفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية فى النصف الثانى من القرن التاسع عشر، كانت شكلاً من أشكال هذه «العاصفة»، وإن لم يكن التحول فى شكل الملكية دائما من ملكية عامة إلى ملكية خاصة، بل كان فى معظم الأحوال نقلاً للملكية من أيدى الوطنيين إلى أيدى الأجانب فى الصناعة والتجارة والزراعة، وتطلب ذلك نقل إدارة النظام السياسى أيضا من الوطنيين إلى الأجانب.
أعتقد أيضا أن ظاهرة الانفتاح التى انتشرت فى مختلف أنحاء العالم الثالث، ابتداء من سبعينيات القرن الماضى، كانت مثالاً آخر لهذه العاصفة، وإن كانت الخصخصة هنا أوضح، أى وضع اليد على ما أنشأته كثير من تلك الدول من صناعات مملوكة للدولة أو مشروعات المرافق العامة (بل وصاحب هذه العاصفة أيضاً تيار كاسح من الخصخصة فى الدول الصناعية نفسها). وقد كانت العاصفة نتيجة مباشرة لنمو قوة ما سمى بالشركات متعدية الجنسيات.
■ ■ ■
ما الدافع الذى يجعلنى أثير هذا الموضوع الآن؟ إنه ما ألاحظه من بعض بوادر مثل هذه العاصفة الآن، والتى تجعلنا نسمع بين حين وآخر تصريحات عن النية فى التصرف على هذا النحو أو ذاك، فى مشروع أو آخر من مشروعات القطاع العام أو الخدمة العامة. صحيح أن الخبر يتلوه بسرعة تصريح بالنفى، وأحياناً بالنفى البات، إذا اشتم منه أحد ما ذكرته حالاً. ولكن خبرتنا الطويلة فى تطور الأحداث وتسرب خبر ثم نفيه، جعلتنا نميل إلى الاعتقاد بأن مثل هذا الشك قد يكون هناك ما يبرره.
فى الأيام الأخيرة سمعنا أن الحكومة بدأت تفكر فى إصلاح أحوال بعض الدور الثقافية المملوكة للدولة مثل دار المعارف، وهى بالفعل تعانى منذ زمن طويل (شأنها دار الهلال) من مشكلات حادة أدت إلى تحول الأرباح إلى خسائر متراكمة. نعم لقد آن الأوان لإصلاح مثل هذه المؤسسات، لكن بشرط ألا ننسى الأهداف الثقافية والاجتماعية النبيلة التى أنشئت هذه المؤسسات فى الأصل لتحقيقها، والخدمات الرائعة التى أدتها للمجتمع فى ظل الملكية الخاصة والعامة على السواء.. إنى أخشى بشدة أن تكون فكرة «الخصخصة» مطروحة فيما يتعلق بهذه المؤسسات أيضاً، دون اتخاذ الضمانات الكافية لاستمرار وتحسين ما تؤديه من خدمة عامة، وأعتقد أن من الممكن جدا حل هذه المشكلات دون أن تتخلى الدولة عن مسؤوليتها فى تحديد أهداف هذه المؤسسات وسياستها.
نقلا عن المصري اليوم
جميع الحقوق محفوظة للأقباط متحدون © 2004 - 2011 www.copts-united.com