لا أدرى لماذا أشعر بقلق شديد من ذلك الإلحاح الشديد على الأحزاب «الكرتونية» حتى تتحالف مع بعضها البعض، فلو كان صحيحا أنها كذلك، وهى ليست كذلك، فإن حصيلة جمع الأصفار لا تزيد على الصفر أيضا.
من الجائز أن سبب القلق هو تلك المقارنة التى تجرى بيننا والبلدان الديمقراطية، ففى هذه الأخيرة تتمحور السياسة حول عدد محدود من الأحزاب تعرف كيف تدير قواعد اللعبة بينها، فتستقر الأحوال، ويهدأ البال، لأننا نعرف الحدود التى يذهب لها العمال والمحافظون فى بريطانيا، والجمهوريون والديمقراطيون فى أمريكا، والديمقراطى المسيحى والاشتراكى الاجتماعى فى ألمانيا، وهكذا حال.
من المؤكد أننا بعيدون تماما عن هذه الحالة، فطبقا للأرقام التى نعرفها، فإن عدد الأحزاب المصرية يبلغ ٨٨ حزبا، ولكن ذلك ليس كل القوى السياسية، وفى وقت من أوقات ما بعد الثورة الأولى فى يناير ٢٠١١ أحصى الزميل البارع جمال غطاس فى مجلة «لغة العصر» عدد الحركات والتجمعات والجماعات والائتلافات السياسية فوجدها ٢١٦.
لا أدرى كم بقى من هؤلاء، ولكننا نعرف أن هناك جمعيات أهلية وحقوقية لا تتصرف باعتبارها كذلك، وإنما تجد من يسمع خطابها أنها تتصرف كما لو كانت أحزابا سياسية، وكذلك تفعل النقابات المهنية والعمالية. مثل هذا التشظى الواسع يجعل من المستحيل التلاقى على قواعد اللعبة، فضلا عن الحفاظ على اللعبة الجارية وأهم ما فيها مواجهة الإرهاب وهؤلاء الذين يريدون لمصر أن تكون دولة دينية فاشية.
هل يكفى هذا للقلق؟ أظنه كذلك، ولكن ما يقلق أكثر أن ننسى كيف كان التلاقى شديدا على مدى تسعة عقود ماضية، حينما كان هناك حزب واحد قوى، ومعه أحزاب صغيرة عرفت أحيانا بأحزاب الأقلية، وفى أحيان أخرى كانت هناك أحزاب «كرتونية» لاستكمال الصورة الديمقراطية. فى العقود الثلاثة الأولى للقيام الحديث للدولة المصرية فى عام ١٩٢٢، كان حزب الوفد ليس فقط صاحب الأغلبية، وإنما كان المستحوذ على مشاعر المصريين، وكانت النتيجة أنه لم يحكم إلا سبع سنوات فقط، وانتهت الفترة الليبرالية كلها بقيام ثورة يوليو.
فى ربع القرن التالى كان هناك حزب رئيس الدولة القوى، أخذ أسماء كثيرة من هيئة التحرير حتى الحزب الوطنى الديمقراطى، وكان وحده قائما فى الساحة، وجلست حوله أحزاب أخرى لا تأثير لها منذ عام ١٩٧٦، وظل الحال كذلك حتى قامت ثورة أطاحت بالنظام. بعد الثورة قامت أحزاب وحركات وائتلافات كثيرة، ولكن الحقيقة كانت أن الإخوان المسلمين ومن لف لفهم حصلوا على ٧٧ من مقاعد البرلمان و٨٣٪ من مقاعد مجلس الشورى، واستبدوا بأحوال العباد بمن فيهم هؤلاء الذين اشتركوا معهم فى «التحالف الديمقراطى»، فقامت ثورة يونيو.
المركزية الحزبية هكذا حول حزب يمثل جبهة وطنية مسيطرة، أو حزب يقوم بدور التعبئة للدولة ممثلة فى رئيس الجمهورية، أو حزب فاشى تعبوى ويستخدم الدين أيضا فى الحشد والسيطرة- لم تحل المعضلة. بالطبع فإن القضية ليست بمثل هذا الاستقطاب الحاد بين حزب واحد فى جوهره فى ناحية، وبين عقد منفرط للجماعة السياسية من ناحية أخرى، وإنما هو كيف نصل إلى نقطة معقولة بين الطرفين. مثل ذلك لن يحدث بالإلحاح الشديد على أهمية الوحدة والتحالف والائتلاف حول أجندة وطنية، ولن يتم بجهود يقوم بها السيد عمرو موسى، أو الدكتور كمال الجنزورى، أو أى من الآخرين الذى أخذوا على عاتقهم تأليف القلوب ومصافحة الأيادى، ولا تلك الحالة من العُجْب الشائعة فى الإعلام حول هؤلاء الذين لا يعلون من شأن المصلحة القومية فوق مصالحهم الفردية أو مصالح جماعتهم الخاصة. كل ذلك لن يجدى، كما أنه غير مفيد.
لاحظ هنا أن الموضوع والمحتوى ليس موجودا فى الصورة، فلا أحد يعلم علام تكون الوحدة أو التحالف أو الائتلاف. ولاحظ أيضا أننا لا نعلم على وجه اليقين ما هى التيارات والأحزاب والجماعات اليسارية، وما هى تلك اليمينية، ومن هؤلاء الواقفون فى الوسط، وما معنى الوسط أصلا فى هذه الحالة. هل طرح أحد سياسة محددة يدعو لاتباعها داخلية كانت أو خارجية؟.
باراك أوباما خاض معركته الرئاسية من أجل انسحاب القوات الأمريكية من العراق وأفغانستان وقانون الرعاية الصحية فى الداخل وأمور أخرى، فهل لدينا من يتقدم للمصريين بسياسات يمكن محاسبته عليها؟ فوق ذلك كله، هل أحزابنا وحركاتنا السياسية تؤدى إلى واقع سياسى يتسم بالحداثة؟ الزميل المتميز البارز إبراهيم عيسى تساءل قبل لقاء قادة الأحزاب السياسية مع الرئيس عبدالفتاح السيسى عما إذا كانوا قد اجتمعوا بهيئاتهم العليا، وأضيف جماعتهم البحثية، وأضيف أكثر هل يوجد لدى أحزابنا من الأصل كوادر محترفة ومتفرغة للعمل السياسى تشكل الهيكل العظمى لكل حزب، وتقوم بوظائف تحويل الشعارات إلى برامج وسياسات،
وتمحص فى سياسات الحكومة والدولة، وترسم الصورة إعلاميا، وتكتب الخطب، وتحضر للاجتماعات، وهكذا وظائف؟ أذكر عندما كنت أقدم برنامجا تليفزيونيا فى قناة «أون. تى. فى» اسمه «مع المعارضة»، وفى وقتها عام ٢٠٠٩ طرح حزب الوفد اقتراحا بضرورة وضع دستور جديد، فدعوت قيادات من حزب الوفد، وسألت ما هو مضمون الدستور، فقيل إنها فكرة، سألت: وهل الفكرة جاءت من الهيئة الوفدية؟ ولم تكن هناك إجابة. سألت: هل يوجد فى الحزب من يحاول أن يضع النقاط على الحروف بالنسبة لهذه الفكرة، ويحولها إلى كيان صلب؟ فكانت الإجابة: إنها فكرة مطروحة للنقاش. لم يكن هناك شىء!.
كل ذلك يجعل الأحزاب وأشباهها بعيدة عن «الحداثة»، مثلها مثل مؤسسات كثيرة فى مصر، ومن ثم فإنها مثل كل شىء فى الدولة يحتاج للوقت والنضج والتطور، وذلك لن يحدث من خلال التحالف بالإلحاح أو بالإكراه أو بإثارة الحمية الوطنية، ولكنه سيحدث حينما يكون النضج كافيا، وحينما يخوض معارك الانتخابات المتتابعة وفى أكثر من موقع وفى أكثر من مكان. ففى كل أنواع الطعام توجد خلطة من نوع ما، وهذه الخلطة لا تستقر على حال وطعم ما لم تستوِ على النار لفترة ما، تطول أو تقصر حتى تحقق المطلوب. وبصراحة لا يوجد ما يدعو إلى حرق المراحل بدعوة أحزابنا إلى ائتلافات ليست مستعدة لها، ولا توجد أصلا فى جيناتها أو تركيبتها الأصلية. وما علينا- المجتمعَ السياسىَّ- إلا أن نخوض معركة التطور، من خلال تجزئتها إلى معارك كثيرة فى انتخابات المحليات، وفى انتخاب المحافظين، وفى النقابات، وفى الجمعيات الأهلية، وحتى فى اختيار ملكة جمال مصر!.
إنها عملية الاختيارات المتتابعة والكثيرة التى تفرز، وتصهر، وتوضح، وتجبر الأحزاب كلها على تقديم إجابات عن أسئلة غائمة ومعلقة، ولا يريد أحد الإجابة عنها. هذه العملية تفرز القيادات، وتجبر القيادات الحالية على اجتذاب الشباب الذى يطالب الجميع بتواجده، ولكنهم ساعة الانتخابات يبحثون فجأة عن الحكمة التى يتمتع بها الشيوخ وأصحاب التجارب.
المهم أن نصبر، ليس كثيرا، وإنما دورتين من الانتخابات فى كل المجالات سوف تصلح المعدة السياسية للبلاد.
نقلا عن المصر اليوم
جميع الحقوق محفوظة للأقباط متحدون © 2004 - 2011 www.copts-united.com