فى توديع ٢٠١٤ واستقبال ٢٠١٥، اجتاحتنى ذكريات كثيرة عما فات، وخواطر عديدة عما عساه أن يأتى. فقد فقدت فى عام ٢٠١٤ زُملاء دراسة وأصدقاء عُمر. من الذين فقدتهم من زُملائى أساتذة علم الاجتماع الدكتور فاروق العادلى، والدكتور سمير نعيم، وقبلهما أصدقاء ستينيات وسبعينيات القرن الماضى د. أسامة الباز، ود. إبراهيم شحاتة، ومن أساتذتى وأساتذة الأجيال كل من د. إبراهيم حلمى عبدالرحمن، رائد التخطيط فى مصر، ود. سعيد النجار، الاقتصادى الدولى ومُجدد الليبرالية فى مصر فى القرن الحادى والعشرين، ود. محمد السيد سعيد، مُجدد الفكر اليسارى، الذى فقدناه فى قمة سنوات العطاء.
ولكنى أخص فى هذا المقال صديقين قديمين، باعدت بينى وبينهما فى السنوات الثلاثين الأخيرة اختلافات فى الشأن السياسى المصرى والعربى والشرق أوسطى، هما الإحصائى القدير د. نادر فرجانى، وعالم الكيمياء الطبيعية د.أشرف بيومى.
ولمن لا يعرف الرجلين، فهما من أكفأ أبناء جيلهما، كل فى ميدانه. وقاما بالتدريس فى أرقى جامعات العالم، ولكل منهما مؤلفات علمية فى حقلى تخصصهما، وكذلك لهما كتابات صحفية فى قضايانا العامة. وأشهد أن وطنهما مصر لم يحتفِ بهما بما فيه الكفاية، رغم أن محافل عالمية قد فعلت ذلك. وينطبق على هذين العالمين الجليلين القول المأثور «لا كرامة لنبى فى أهله». فحبذا لو تدارك ذلك من يهمهم الأمر.
ولأننى كنت قد عرفتهما وتوطدت علاقتى بهما فى سبعينيات القرن الماضى، أثناء الدراسة العُليا فى الولايات المتحدة، أى فى مناخ مجتمع ليبرالى تعددى، فلم أتوقع أن يتحول الخلاف السياسى معهما إلى قطيعة وازدراء من كل منهما نحو شخصى المتواضع.
فقد كانت جمعتنا فى البداية، خلال ستينيات القرن الماضى، الأفكار اليسارية والعروبية والناصرية. كما شاركنا فى حركتى مُناهضة الحرب فى فيتنام، والحقوق المدنية لأبناء الأقليات فى الولايات المتحدة. وبالطبع، كنا مثل بقية جيلنا من الشباب العربى المؤيدين لحركات التحرير فى العالم الثالث وفى مقدمتها المُقاومة الفلسطينية. وبعد حصولنا على الدكتوراه، حاول كل منا أن يُسهم فى دعم أحد فصائل مُنظمة التحرير الفلسطينية. وقد شاركت مع د. أشرف بيومى فى تأسيس كيانات علمية وفكرية لدعم القضية الفلسطينية فى الأرض المُحتلة، وفى مخيمات اللاجئين فى لبنان والأردن.
المهم أن موضوع الخلاف الذى أفسد للود كل قضية، جاء فى أعقاب حرب أكتوبر ١٩٧٣. فقد كان من رأى ثلاثتنا فى البداية، أن تلك الحرب التى كسرت الصلف الإسرائيلى، وأعادت الإحساس بالكرامة للعرب، ينبغى أن تكون جولة، تتبعها جولات لاستكمال تحرير كل فلسطين من النهر (نهر الأردن) إلى البحر (الأبيض المتوسط). لذلك حينما بادر الرئيس الراحل أنور السادات بالدعوة للسلام، ثم زار القدس لهذا الغرض، كان ثلاثتنا من الرافضين لذلك النهج. وكانت هناك جبهة عريضة رافضة، ومنها حكومات دول عربية، أطلقت على نفسها جبهة الصمود والتصدى، شملت كلا من منظمة التحرير، وسوريا، والعِراق، والجزائر، واليمن.
ولكن بعد غزو صدام حسين للكويت، (١٩٩٠)، وشق الصف العربى، بين مُعارض ومؤيد لذلك الغزو، قمت بمراجعة موقفى العام من الأنظمة العربيةـ مُعارضاً للنظام البعثى فى العِراق، ومؤيداً للنهج المصرى الذى بادر به السادات، ونشرت كتاباً، بعنوان «رد الاعتبار للرئيس أنور السادات». ولكى أكون أميناً مع نفسى ومع القُراء، تضمن النصف الأول من الكتاب مقالاتى النقدية لسياسات الرئيس السادات، التى كنت قد نشرتها فى حياة الرجل (١٩٨٠)، وتضمن النصف الثانى من الكتاب مقالات مؤيدة لسياسات السادات، ومنها تلك الخاصة بمُبادرة السلام واتفاقية كامب ديفيد.
وكان هذا التحول فى موقفى نحو الرئيس السادات ومُعاهدة السلام هو القشة التى قصمت ظهر صداقتى ومودتى مع الزميلين نادر فرجانى وأشرف بيومى. فقاطعانى فكرياً واجتماعياً. وكنت كلما حاولت مُصافحتهما فى أى مناسبة عامة، يرداننى، ويرفضان مُصافحتى أو الحديث أو السلام أو الوصال.
ولأنى أحب كلا منهما، وأحمل لهما تقديراً بلا حدود، فإن موقفهما ظل يؤلمنى ويُحزننى. وحينما سألتنى زوجتى فى مناسبة رأس سنة ٢٠١٥ عن أمنياتى للعام الجديد، كانت إحدى هذه الأمنيات أن أتواصل مع الزميلين نادر وأشرف، فأشارت علىّ بالاتصال لعل وعسى يستجيبان للمُصالحة. ولكن لأنى فقدت أرقام هواتفهما، منذ عشرين سنة على الأقل، لم أستطع تنفيذ توصية الزوجة الكريمة، والتى هى رغبة عميقة لدىّ.
ولكن ها أنا أكتب فى وسيلة اتصال عام (وهى صحيفة المصرى اليوم) على أمل أن يكون نادر فرجانى، وأشرف بيومى أو بعض معارفهما من قُرائها، لينقل إليهما رغبتى فى التواصل معهما، ورجائى لهما أن يُسامحانى إن كنت قد أخطأت أو جانبنى الصواب فى اجتهاداتى حيال بعض القضايا العامة. وأريد أن أهمس فى أذنيهما أننا فى السنوات الأخيرة من أعمارنا، والصفح والمُسامحة هما من صفات الكِرام.. فليكونا كِراماً وليغفرا لى، إن كنت قد أخطأت. وليقبلا دعوة منى أو من أحد أصدقائنا المشتركين لفنجان شاى أو قهوة، قبل أن يُباغت الموت أحدنا فى أى لحظة. ونحن جميعاً نعرف ونؤمن أن الموت علينا حق.
اللهم قد بلغت، اللهم فاشهد.
نقلا عن المصري اليوم
جميع الحقوق محفوظة للأقباط متحدون © 2004 - 2011 www.copts-united.com