مصطفى حجازي
«ما حدش حيتعلم لغاية ما أجيب حق ابنى الأول».. هكذا تحدث «شريف» والد الطفل «إسلام» الذى قَتَلَهُ مُدَرِّسُهُ بدعوى تأديبه على الإهمال فى واجباته المدرسية..!
قالها الأب المكلوم وهو «بيقَفِّل» مدرسة شهداء بورسعيد بالسيدة زينب، التى قُتِلَ فيها ابنه الأسبوع الماضى.. قالها وهو يلاقى الدعم والاستحسان من المدرسات اللاتى تم طردهن من المدرسة على يديه ويد «تجريدته» المكونة من صديقيه.. بأسلحتهم التى لم تتعد «السباب» و«الثقة» فى مشروعية قضيتهم.. وسلاحهم الأهم وهو «التيقن» فى أنهم يعيشون فى «لا-دولة»..!
فعلها شريف وتجريدته وهو ينفث دخان سيجارته فى مشهد ثبات نفسى لا يخلو من جبروت الفتوات فى حارات نجيب محفوظ.. وهم يستمدون شرعيتهم من انكسار الحرافيش أمام أوامرهم..!
لا يناقش عاقل فداحة مصاب الأب فى ابنه.. ولا فداحة مصابنا، نحن المصريين، فى مؤسسة تعليمنا وفى مُدرسينا على وجه الخصوص.. ولكن الأولى بالنقاش هو متى تعلم شريف تلك «اللغة القديمة» والتى مارسها «فعلاً» لا «قولاً» حيال مأساته..؟! هل تعلمها فى الثلاثة أعوام الماضية من أحد إعلاميى القنوات «الدينية»..! أم تعلمها فى العام الماضى من أحد إعلاميى القنوات «الدنية» (المقاتلة دائماً فى سبيل «الدنو» من أى سلطة)..!
هل تعلمها قبل ثلاثة أعوام أيضاً من رئيس «لا-دولة» «مماليك التنظيم» وهو يحيى حماة الشرعية بعد أن فتكوا بمواطنين مثلهم.. أم من تنظيمه الذى لم ير فى المصريين إلا مطية سلطة لمدة خمسة وثمانين عاماً..! أم تعلمها من رئيس «لا-دولة» «مماليك النظام» الذى تسلط ثلاثين عاماً وأكثر.. ومن نظامه الذى لم ير فى المصريين أكثر من عالة يُجبى منها..!
تعلمها الأب المكلوم من أى من هؤلاء أو كل هؤلاء لا فرق.. فى سنة سلطة التنظيم.. أو فى ستين سنة سلطة النظام أيضاً لا فرق..! السؤال الأهم: هل فارقنا نحن «اللغة القديمة»..؟! هل كفرنا بها..؟! أم مازلنا نتعبد بها فى دولة «ضرار».. شأنها شأن المسجد الضرار من حيث الفساد والإفساد..! اللغة هى روح الشعوب.. قبل أن تكون مفردات وقواعد صرف وأصوات حروف.. هى روح تموت - لا لتفنى - ولكن لكى تتجدد وتهب الشعوب حياة جديدة ومستقبلاً جديداً..!
الخبر اليقين وليس الحزين يا سادة.. إن «اللغة القديمة» التى صاحبتنا قرابة الستين عاماً قد ماتت.. ولن يستطيع أكثر الواهمين وهماً أن يرجو لها إحياءً..!
ومن حق سائل أن يسأل: أى لغة قديمة تلك التى تعلمها والد التلميذ القتيل ومارسها.. وأى شاهد لدينا أنها ماتت؟!
اللغة القديمة فى شأن الدولة هى أن هيبة الدولة تكون فى غلظة العقاب.. وفى عدل الجباية والإفقار.. وأن الدولة القامعة.. الجامدة.. المتعالية بجهلها هى الدولة المهيبة.. وأن الدولة الراعية.. العاقلة.. العادلة هى دولة رخوة.. معيبة..!
اللغة القديمة فى شأن الوظيفة العامة.. هى التى تحث كل مرؤوس ألا يرى توصيفاً لوظيفته إلا إرضاء رئيسه.. وأن ثنائية الاستعباد هى سنة الحياة الوظيفية.. فأنت إما مُستعبَدٌ لرئيسك.. أو مُستعبِدٌ لمرؤوسك..! اللغة القديمة فى شأن الأدب الوظيفى هى أن يتحدث المرؤوس عن رئيسه بصيغة الغائب المبجل «سيادته».. وأن يبقى لسانه لزجاً بذكر سيده.. سيادته «وجه».. سيادته «مهتم».. سيادته «يرى».. سيادته «تأثر جداً».. المهم أن يبقى اللسان لزجاً لا رطباً بذكر «سيادته»..!
اللغة القديمة فى شأن أى أمر جاد هى كل لغة نحاسية جوفاء لا تحمل معانى بقدر ما يملأ بها فراغ الوقت.. هى أن نقول لكل مناسبة ما تعودنا أن نقوله عند الفرح أو الحزن أو الخوف أو الخطر.. نقوله ونحن نعرف أن مسؤوليتنا عن استحقاقات تلك الكلمات من شراكة أو عمل.. لا تتجاوز رنين الكلمات فى أفواهنا.
اللغة القديمة فى شأن الاقتصاد هى أن نطمح إلى النمو ونسميه تنمية.. وفى أن نؤمن بضرورة توفير البنية التحتية أكثر من اعتقادنا فى إنسانية من يستخدمونها..!
اللغة القديمة فى الاقتصاد أيضاً هى فى أحسن الأحوال أن ننشغل بـ«ماذا» نبنى.. عن «لماذا» نبنى..؟! اللغة القديمة فى الصراع.. هى أن ننشغل بـ «على من» ننتصر أكثر من أن ننشغل بـ«إلى ماذا» ننتصر..؟! اللغة القديمة أن نجهر بالإيمان بالإنسان عماداً للمستقبل.. ونحن نُسِّرُ الكفر به..!
اللغة القديمة فى شأن الشعوب هى فى نفاق الناس واستعمائهم.. أو فى دغدغة مشاعرهم وسلبهم للقدرة على التفكير بالخوف أو الوهم. اللغة القديمة فى شأن الشباب هى أن نتغنى بكونهم قاطرة المستقبل ونحن نُغَرِّبُهم بالخوف منهم وباسم الخوف عليهم.. وهى أن يُغَرِّبَ الشباب أنفسهم بطلب عدل المنح أكثر من عدل الإتاحة والتكافؤ.. أو بعدمية مدعاة..! اللغة القديمة فى شأن المستقبل هى أن نتحدث فى شأن اقتصاد مستقبل.. سياسة مستقبل.. دولة مستقبل.. ونحن نقرأ كل ذلك من كتاب اقتصاد وسياسة ودولة ستين سنة مضت..!
اللغة القديمة فى شأن الأوطان هى التى تقول إن الأوطان تصنعها الموارد فقط..!
اللغة القديمة فى شأن السياسة هى فى توظيف الأحداث والموارد والمواقع من أجل أن تبقى الأنظمة لا من أجل أن ترقى الشعوب..!
اللغة القديمة هى أن تعرف الحرام الدينى وتملأ الدنيا طنيناً به ولا تعرف الحرام الوطنى والإنسانى قبل السياسى..!
«بنيتو موسولينى» - «نبى الفاشية» فى القرن العشرين - كتب فى مقدمتة عن «ميكيافيللى» - فى رسالتة للدكتوراه - مؤكداً أن كل ما أتى به ميكيافيللى فى شأن السياسة من أربعة قرون لايزال يصلح بل يتوجب فى أوائل القرن العشرين.. أصر موسولينى على لغة الماضى حينها فى خطاب الحاضر حينها.. فكانت المأساة ودرس التاريخ كما نعرفها الآن..!
وأقول من قلب ما قال نزار قبانى.. أنى
«أنعى لكم، يا أصدقائى، اللغة القدﻳمة.. والكتب القدﻳمة
أنعى لكم، الكلام المثقوب.. كالأحذية القدﻳمة
أنعى لكم، مفردات العهر.. والهجاء.. والشتيمة
أنعى لكم، كل فكر قاد إلى ﻫزيمة».
مرة أخرى اللغة القديمة ماتت.. ولا يمكن أن نقرأ فيها مستقبلاً.. ولن يحييها واهم.. لأنها لغة الهزائم.. ومن أراد أن ينظم قصيدة نصر (و لو مُدَّعَاة) للمستقبل من مفردات هزائم الماضى فليتقدم.. وسيكون المستقبل هو الخصم والحكم..!
فكِّروا تصحُّوا.
نقلا عن المصرى اليوم
المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع
جميع الحقوق محفوظة للأقباط متحدون
© 2004 - 2011
www.copts-united.com