«نماذج بشرية» للدكتور مندور كتاب فريد فى نوعه وقيمته وتأثيره، قرأت الكتاب قبل أن أنهى دراستى الثانوية، كان هو الباب الذهبى الذى دخلت منه إلى العالم السحرى الذى مازلت أعيش فيه وأتمنى ألا أخرج منه إلى نهاية العمر: عالم الأدب، أو العالم كما يراه الأدباء، ويعيدون خلقه على الورق، علمنى حب القراءة، حب البحث عن المعنى والحب والتحقق كما يصنعها الكتاب والمفكرون: هنا، وفى أى مكان لكى يعيدوا ترتيب الصخب والارتباك الذى يعيشه مراهق يبحث له فى الحياة عن طريق.
أخذ كتاب مندور الفاتن بيدى فى أصعب أوقات الحياة، الشكر والتقدير والامتنان أشعر بها كلما جاء ذكره أو وقع فى يدى كتاب له، صدر «نماذج بشرية» عام 1944 طبعته على ما أعتقد مكتبة نهضة مصر، كتاب من القطع الكبير على غلافه الأخضر كلمة «نماذج بشرية» ومحمد مندور بحروف سوداء كبيرة، الإهداء والمقدمة - على ما أذكر - كانا لزوجته الشاعرة الراحلة «ملك عبدالعزيز» يقول مندور فى الإهداء الذى احتفظت به كل الطبعات اللاحقة للكتاب.
اعتدت أن أملى على زوجتى ما أكتب أو أقرأه عليها بعد الفراغ منه، فهى أديبة تجيد النثر والشعر، وأنا شديد الثقة بذوقها الأدبى الذى أدركته فيها وهى لاتزال طالبة فى كلية الآداب.. كانت خير عون لى على الرجوع عما قد تسوقنى إليه حرارة القلم عندما يتملكنى الموضوع فأندفع فى أعقابه، إن يكن هناك إنسان قد أحس بكل ما وضعت فى هذا الكتاب من تفكيرى وإحساسى فهو بلا ريب هذه الزوجة العزيزة.
ثم يعود ليقدم الكتاب وفكرته للقارئ فيقول: للكاتب الإيطالى بيراندللو مسرحية هى «ست شخصيات تبحث عن مؤلف يبرزها إلى الوجود» وهذا هو معنى الخلق فى الأدب، ولكم من شخصية لاتزال مبعثرة غامضة حائرة، حتى يتاح لها مؤلف يجمع أشتاتها ويوضح معالمها ويدعم حياتها، فإذا هى أبقى على الزمن من البشر، وإذا بها تجتاز الأجيال مستقلة الوجود فى مأمن من الفناء: لأنها أعمق فى الحياة من كل حى، وأصدق دلالة من كل واقع».
فى الأدب: لير، وهاملت، ودون كيشوت، وأوليس إننى أحبهم وأعرفهم وأتمنى أن أقابلهم أكثر من فهمى ومرسى وجون وفرج الذين ألتقى بهم كل يوم فى الشارع أو على المقهى.
المعانى والقيم والأفكار التى يستخرجها مندور من أكثر من عشرين نموذجاً بشرياً من خلق الأدباء والمفكرين تكاد تصنع دليلاً يشرح تطور العقل والفكر الإنسانى من اليونان القديمة حتى الآداب الحديثة.
■ ■ ■
فى شهر مايو 1965 رحل الدكتور مندور وعمره 58 عاماً، بعد رحلة حياة صاخبة فى الأدب والسياسة، والنقد والصحافة، اختلف مع كثيرين وأحبه وتتلمذ عليه خلق أكثر، أمضى بعثته التى امتدت إلى حوالى 9 سنوات فى فرنسا وعاد دون أن يحصل على الدكتوراه، ولكنه حصل معارف وتجارب وخبرات ممتدة من الفلسفة اليونانية إلى الاقتصاد الحديث والفكر التقدمى الاشتراكى، اختلف مع العميد طه حسين الذى رعى بعثته وشجعه على دراسة الأدب، ولكنه عاد وحصل على الدكتوراه من جامعة فؤاد برعاية وإشراف أحمد أمين وأمين الخولى، فى واحدة من أهم الرسائل الدارسة للأدب العربى القديم، «النقد المنهجى عند العرب»، التحم بالعمل السياسى والاجتماعى التقدمى فى عاصفة من الفكر الجديد الحر فى السياسة والقضايا الاجتماعية، بينما نادى بفكرة «الأدب المهموس» فى مقابل الصراخ والرومنتيكيات العاطفية الزاعقة، ويقول الراحل رجاء النقاش فى تقديم الطبعة التى بين يدى من: نماذج بشرية: فى كتاب «الميزان الجديد» للدكتور مندور اكتملت صياغته لنطريته فى «الأدب المهموس»، هى لم تكن مجرد دعوة أدبية بل هى دعوة إنسانية صادقة قريبة إلى القلب. الهمس فى الشعر ليس معناه الضعف، الشاعر القوى هو الذى يهمس فتحس صوته خارجاً من أعماق نفسه فى نغمات حارة.
إلى جانب النقد المنهجى والميزان الجديد، قدم مندور ترجمة رائعة لكتاب: دفاع عن الأدب لجورج داهميل، كما قدم كتاب: من الحكيم القديم إلى المواطن، وأصدر واحداً من أوائل الكتب العربية عن تاريخ حقوق الإنسان، وعشرات الكتب الأخرى التى تجد قائمة بها فى أى مؤلف من مؤلفاته، كما جمع رجاء النقاش مجموعة مقالات لمندور لم تنشر فى كتاب صدر عن دار الهلال، أما الأستاذ فؤاد دوارة فقد أفرد جزءاً كبيراً من كتابه الشهير «عشرة أدباء يتحدثون» عن السنوات الأخيرة من حياة مندور التى أمضاها فى كفاح بطولى ضد مرض خطير فى العين والدماغ والغدد وكأنه كان يقول: «نحن أمواج إن تهدأ تمت» كما قدم الأستاذ فؤاد قنديل دراسة مهمة عن أعمال وحياة مندور.
صوت قلب مندور الحقيقى وثورة عقله لا أجدها أكثر بريقاً ووضوحاً عما عبر عنها فى كتابه هذا «نماذج بشرية» فيه تقرير واضح شفاف للدور الإنسانى الذى يلعبه الأدب فى تقدم المجتمع، وفهم شخصية وتطور الإنسان.
■ ■ ■
يقول مندور فى صفحات الكتاب الأولى: قد يبدو غريباً أن نترك النماذج المشهورة كدون كيشوت وهملت وفاوست لنبدأ «بحفروش» «جفروش» طفل فى الثالثة عشرة من عمره، يظهر ويختفى بعد أن تبدأ رواية «البؤساء» لهيجو وقبل أن تنتهى، فلا هو بطل الرواية ولا هو مدارها، ولكننى رغم ذلك أحب هذا الطفل وأفضله على الرجال، حتى إننى أقعدنى المرض أياماً فلم أجد جليساً تستريح إليه النفس خيراً منه، لقد سئمت منطق البشر وأصبحت أرثى لذلك الفيلسوف الجليل «أفلاطون» الذى غذى شبابى بما فى الخير والحق من جمال، لا أدرى هل ضل الرجل عندما زعم أن النفوس لا يمكن إلا أن تعشق الخير والحق إن أبصرت بهما، أم يخادع الناس أنفسهم ويخادعون الغير عندما يتحدثون عن الخير والحق؟ من يدرينا؟ قد لا يكون هذا ولا ذاك وإنما هو عبث بالألفاظ وإخراج للغة عما خلقت له من حمل معانى النفوس ونفثات القلوب، ولكم من مرة حدثتنى النفس أن اختراع اللغة هو أقسى ما نزل بالبشر من كوارث.
جفروش طفل من شوارع باريس، فى قلب ثورة 1832 هو من باريس بمنزلة العصفور من الغابة، كان جفروش يرتدى بنطلوناً لم يأخذه من أبيه وقميصاً لم يأخذه من أمه، إنما كساه بتلك الأسمال قوم محسنون، له أب وأم ولكنه يتيم، حجارة الشوارع التى ينام عليها كانت أقل صلابة عليه من قلب أمه وأبيه، كان صاخباً شاحباً خفيفاً يقظا ساخراً حى الملامح مريضها، تراه رائحاً غادياً مغنياً لاعباً يحفر القنوات، يسرق أيانا ولكن فى مرح كما تسرق القطط أو العصافير، يضحك لمن يسميه عفريتاً ويغضب ممن يسميه لصاً، لقد حرم المأوى والخبز والنار والحب، ولكنه كان مرحاً لأنه حر.
هو وأمثاله يعيشون أسراباً، يزرعون الطرقات ويسكنون الفضاء، هم يصيحون ويسخرون ويصخبون ويتضاربون، عليهم خرق كالشحاذين، وأسمال كالفلاسفة، يصيدون فى المجارى، ويطاردون فى القمامة، ويستخرجون المرح من الأوحال، مجانين إلى حد العقل، شعراء إلى حد الإسفاف، يندسون فى الروث ويخرجون منه مرصعين بالنجوم.
■ ■ ■
فى صحبة هذه العيون وذاك القلم العبقرى العارف بالأدب وبالثقافة وبالإنسان تتنقل فى هذا الكتاب من هملت ولير وتغوص فى الكوميديا الإنسانية عند بلزاك، والكوميديا الإلهية عند دانتى، وتتبع شخصية «أوليس» فى الأدب اليونانى حتى أحدث وجود لها عند جيمس جويس، ويقف بك عند فاوست جيته وفاوست فى الأساطير الشعبية الألمانية، جوليان سوريل عند استندال فى الأحمر والأسود، والأمير موتوشكيى فى الأبله عند ديستوفسكى، تستخرج عبقرية مندور ما فى أكثر من عشرين عملاً أدبياً خالداً أسرارهم ويقدمهم للقارئ الذى يعرفهم أو الذى لا يعرفهم وقد اكتسبوا من روح الرجل العبقرية خلوداً جديداً.
حقاً نماذج بشرية كتاب فاتن.
نقطة نظام
منذ أيام قرأت لواحد من قراء «المصرى اليوم» الكرام اعتراضاً على اقتطاع بعض الكتاب مساحة من الباب الناجح والمفضل عنده «السكوت ممنوع»، عصير الكتب يحتل مساحة يوم الأحد، لا أدافع عن «عصير الكتب» لكننى أقول للقارئ الكريم: الكتاب الجيد قديماً كان أو جديداً يحمل دائماً نفس الرسالة: عبر عن نفسك «السكوت ممنوع».
نماذج بشرية، د. محمد مندور، هيئة الكتاب - القاهرة 1996
نقلا عن المصرى اليوم
المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع
جميع الحقوق محفوظة للأقباط متحدون
© 2004 - 2011
www.copts-united.com