تثير عودة بعض رموز السلفيين، من خارج الأزهر الشريف، إلى الخطابة فى المساجد، قضية مهمة، خاصة أنهم استأنفوا أيضاً الدروس التى تعكس أفكارَهم،
والتى من المعروف أن تكفير الآخر يحتلّ ركناً ركيناً فيها، بما يؤججه من نعرات طائفية، وهو ما كان يستفز الأغلبية الساحقة من الجماهير ومن كل التيارات والأحزاب من غير المنتمين إلى فكر هذه الجماعات. وكان هذا من أسباب إصدار القانون الذى حظر ارتقاء المنابر على غير الأزهريين، وقيل، آنذاك، إنه خطوة على سبيل اجتثاث الفكر المتطرف الذى يُحرِّض على العنف وعلى التمييز ضد أبناء دين أو معتقد آخر.
وفى كل الأحوال، فإن القانون، كما ترى، لم يعالج جذور الكارثة وإنما اكتفى بالتعامل مع بعض آثارها! وبدا لكثير من منتقدى القانون أن الدولة لا يهمها إلا فرض سيطرتها على الجانب الذى قد ينال من هيبتها ومن قدرتها على فرض السيطرة! أول انطباع تخرج به من هذه العودة، هو أن لدينا متخصصين فى وضع القوانين لهم مهارات رفيعة فى دسّ عبارات قصيرة فى متن القانون تنسفه وتتناقض مع أسباب إصداره وتحبط الهدف منه! مثل هذا القانون (51 لسنة 2014)، الذى نصّ على حق وزير الأوقاف فى أن يستثنى من يراه من هذا الحظر! هذه هى الثغرة التى يمكن أن ينفذ منها الفيل!
حدَّد القانون العقوبة بالحبس مده لا تقِلّ عن ثلاثة أشهر ولا تتجاوز سنة، وبغرامة لا تقل عن 20 ألف جنيه، ولا تتجاوز 50 ألفاً، أو بإحدى هاتين العقوبتين، لكل من قام بممارسة الخطابة وأداء الدروس الدينية بالمساجد وما فى حكمها دون تصريح أو ترخيص، وتتضاعف العقوبة فى حالة العود. وصدر القانون فى الأيام الأخيرة قبل مغادرة الرئيس السابق المستشار عدلى منصور القصر الرئاسى.
وقد نفى وزير الأوقاف بعدها بأشهر قليلة تصريحات صحفية نُسبَت له، وأكدّ أنه لن يسمح لأى سلفى بالخطابة، وتحدّى أن يكون هناك أى استثناء. وذكر تحديداً أسماء بعينها، من حزب النور ومن الهيئة التى تعتبر الحزب ذراعها السياسية، وقال الوزير إنهم لا يمكن أن يعودوا بأى حال من الأحوال. جاءت أول الاعتراضات من حزب النور، الذى طالب وزارة الأوقاف بإعادة النظر ومنح تراخيص لعدد من قياداته، كما صدرت بيانات من بعض جمعيات حقوق الإنسان، التى أخذت على القانون انتهاكه لحريات دستورية تنص على حرية الاعتقاد وحرية التعبير.
وقال آخرون إنه لم يكن هنالك ما يدعو إلى إصدار القانون حيث لدينا بالفعل ترسانة من القوانين تفى بمحاكمة من يمارس خطاب الكراهية أو يحضّ على ما من شأنه إثارة الفتنة فى المجتمع.
ثم كانت المفاجأة، مع عودة بعض رموز الفتنة إلى الخطابة اخيرا، فى تناقض المواقف والتصريحات الرسمية إلى حد الإرباك التام! فلم يمارس أحد حق الضبطية القضائية المنصوص عليها فى القانون! ولم تتحرك جهة واحدة لاتخاذ إجراءات الإحالة إلى القضاء للحصول على الأحكام العقابية التى ينصّ عليها القانون!
قال واحد من الخطباء العائدين فى الأسكندرية، له عشرات الأدلة الموثقة يُكفِّر فيها الأقباط ويزدرى المسيحية، إنه حصل على تصريح مؤقت من وزارة الأوقاف لصعود المنابر والخطابة وعقد الندوات، بل وزعم أن هذا تم بعد تعهده بالالتزام بمواجهة الأفكار التكفيرية!! ولم يعلق أحد على التناقض الجلى: كيف يتصدى للتكفير واحد من عتاة المكفِّرِين؟! وكانت المفاجأة الثانية على لسان مصدر مسئول بوزارة الأوقاف، الذى قال كلاماً يعجز عن ابتكار مثله كثير من الدبلوماسيين المخضرمين! قال إن الوزارة لم تعط أى تصريح لأعضاء أو قيادات الدعوة السلفية لصعود المنابر، ولكن، وفق ما قال، فإن الوزارة غضَّت الطرف عن صعود هؤلاء الشيوخ رغم علمها بالأمر!!
وجاء تفسير هذا الكلام الطريف من مصادر بمديرية الأوقاف بالإسكندرية أكدت أن تعليمات أمنية كانت وراء السماح لواحد من رموز الفتنة وتسهيل مهمته، هو وعدد من زملائه، بحجة أنهم سوف يتصدون لأفكار تنظيم داعش الإرهابى بعد الجريمة الشنيعة التى ذُبِح فيها عدد من المواطنين المصريين فى ليبيا!
غريبة! لأن أكبر فارق بين داعش وبين هؤلاء هو أنه أكثر منهم جرأة وصراحة، وأنه لا يُظهر ما لا يبطن، ولا يعتمد مبدأ التقية! كما أن الأزهر الذى يتحدث عن وسطيته، ويرى أنه أجدر بالانفراد بالمنابر، ليستبعد عنها المتطرفين، هو الذى تتضمن كتبه التعليمية، حتى هذا العام الدراسى، كل الأسانيد التى يعتمد عليها داعش وهؤلاء السلفيون!
وأما التشابه إلى حد التطابق بين كل هؤلاء فتراه واضحاً فى مناقشة مَن يختلف معهم فى الرأى، بل من يتجاسر وينشر معلومات يعتبرونها من الكهنوت الذى لا يُمسّ، مثل هذه الكتب التعليمية! فقد شنّ قيادى أزهرى كبير هجوماً حاداً على من ينتقدون ما يُقرَّر على التلاميذ فى المدارس الأزهرية، وقال إنهم يتطاولون على الأزهر الشريف، وبعد أن ذكر تاريخ الأزهر فى الحفاظ على اللغة العربية والإسلام عبر التاريخ، قال إن لجنة تطوير المناهج التعليمية فى الأزهر قد انتهت من مهمتها فى تصحيح المقررات التعليمية وإن كتب العام الدراسى القادم (2015/ 2016) سوف تخلو من كل مأخذ! أليس هذا إقراراً بصحة موقف المنتقدين الذين لم يكونوا يطالبون سوى بإجراء هذه التصحيحات؟
ولكن كيف للرأى العام أن يطمئن إلى أن التصحيح جرى بالشكل المأمول؟ وكيف تنفرد بالقيام بعمليات التصحيح نفس الهيئة التى وضعت، أو أجازت، الكتب القديمة المملوءة بما أقرّ الأزهر بوجوب تغييره؟
إن تصحيح هذه الكتب، ليس شأنا خاصاً بالأزهر الشريف وحده، وإنما هو أمر عام يخصّ كل المؤسسات المعنية بالتعليم فى مصر، مما يجعل من الأجدى أن يئول أمر التصحيح إلى لجنة وطنية تضم خبراء مشهودا لهم بالعلم وبالجدية وبالجرأة فى الحق.
من المتفق عليه أن ثمار التعليم الجيد بطيئة النمو، لذا ينبغى الحسم مع كل من يعتمد خطاب التكفير والكراهية من أى مرجعية كان، أزهريا أو سلفيا أو غيرهما، ومن فوق أى منبر كان، مسجدا أو تليفزيونا أو غيرهما.
نقلا عن الاهرام
جميع الحقوق محفوظة للأقباط متحدون © 2004 - 2011 www.copts-united.com