القرار الذي اتخذه الملك سلمان بن عبد العزيز بالتدخل العسكري ضد جماعة الحوثي المتطرفة له تبعات أبعد من اليمن، إذ لا يؤثر هذا القرار فقط في السياسات الإقليمية خلال الفترة المقبلة، بل في السياسة العالمية برمتها، فله تبعات على اليمن، وعلى الملاحة في البحر الأحمر وبحر العرب، وعلى أسعار النفط، وعلى تغيير معادلة التفاوض بين أميركا وإيران حيال ملف إيران النووي. وفي النقطة الأخيرة هذه تكون واشنطن مدينة للرياض وليس العكس في هذه الحرب. نعم لا يمكن إهمال الدور الأميركي، ولكن جرأة القرار السعودي فرضت واقعا على الأرض يجعل لدول «5+1»، خصوصا الولايات المتحدة الأميركية، اليد العليا في المفاوضات النووية مع إيران، وسأشرح هذا في صلب المقال.
كل هذه التبعات أعطت القمة العربية في شرم الشيخ طعما مختلفا عن القمم السابقة. نعم مصر كدولة مضيفة تستحق الإشادة، وكذلك رئيسها الذي طرح التصور الاستراتيجي لنواة قوة عربية مهابة في المنطقة، لكن القمة وبصراحة كانت قمة سلمان بن عبد العزيز، وقراره الشجاع بالتدخل في اليمن، حيث كان واضحا للقاصي والداني أنه وفي حرب اليمن هذه فالقيادة للرياض لا لغيرها، وقرار «عاصفة الحزم» يمثل قرارا فارقا في السياسة الخارجية السعودية، فالمعروف عن السعوديين أنهم لا يستمرئون التدخل في شؤون الآخرين كسياسة بشكل عام، وحين يتدخلون يكون ذلك أمرا مفروضا عليهم سواء في حالة الملك فيصل من قبل أو الملك سلمان اليوم.
بالطبع هناك تحديات كبرى لهذه الحملة العسكرية؛ أولها تعريف النصر واستراتيجية الخروج بشكل معرف في أضيق الحدود (Victory narrowly defined)، أيا كان التعريف، لأن تثبيت حكم الرئيس عبد ربه منصور هادي في اليمن يعني تدخلا للمدى الطويل، ومع استمرار أي عمليات عسكرية في العالم غالبا ما يتراجع الدعم العام لها، وتتفكك فيها التحالفات، لذا لا بد من إنهاء «عاصفة الحزم» بسرعة ما دامت الأهداف الرئيسية منها قد تحققت.
هناك مفاهيم استراتيجية معقدة في هذه العملية، ولكن في تبسيطها فائدة، إذ يكون ملخصها الاستراتيجي بالبلدي «اضرب المربوط يخاف السايب»، و«السايب» هنا إيران أولا وحزب الله ثانيا والجماعات الشيعية المتطرفة في كل من سوريا والعراق.
إذا ما نجحت هذه الاستراتيجية فنحن نتحدث هنا عما يسمى بتراجع النفوذ الإيراني إقليميا (Rollback effect)، وهذا التراجع الإقليمي نتيجة المواجهة بالأسلحة التقليدية يعني أن السلاح التقليدي يحدد مصير النووي الإيراني في المفاوضات بين أميركا وإيران، أو مجموعة «5+1» وإيران.
وفي هذا السياق تكون واشنطن اليوم مدينة للرياض لا دائنة لها كما يتصور البعض. فالضغط الميداني السعودي ومعه التحالف العربي متمثلا في مصر والإمارات والأردن والكويت وبقية دول التحالف، هذا الضغط الميداني هو الذي يجبر إيران على التوقيع على صفقة النووي.
قلت في مقال سابق في هذه الصحيفة منذ أسبوع إن المسارين النووي والتقليدي مختلفان، وإن ما يهم العرب هو النفوذ الإيراني التقليدي على الأرض، وما يهم الغرب هو النووي الإيراني، إما إنهاء البرنامج النووي تماما أو إعادته عشرات السنين إلى الوراء، لكن «عاصفة الحزم» اليوم ربطت المسارين، بمعنى أن الضغط الميداني السعودي والعربي يعزز من موقف المفاوض الغربي مع إيران، وبهذا يكون الغرب مدينا لنا هذه المرة وليس العكس.
هي قمة سلمان أيضا، لأن العمل العسكري الأول في عهد الملك سلمان متمثلا في «عاصفة الحزم» حدد ملامح حقبة ملك، ورسم الخطوط العريضة للشخصية، إذ وجد العالم نفسه أمام ملك لا يتردد في اتخاذ القرار عندما يكون الأمن القومي لبلاده موضع تساؤل. «عاصفة الحزم» هي إشارة لنوعية القيادة التي سيتعامل معها العالم خلال الفترة المقبلة.
قمة سلمان رسمت خطا في الرمال للطموح الإيراني في المنطقة، حيث أصبحت طائرات الـ«F15» وطلعاتها الجوية وسيلة من وسائل الحوار، فالذين يبحثون عن الحوار جاءتهم الإجابة زاعقة في صوت محركات الطائرات: الحرب أحيانا حوار.
في «عاصفة الحزم» أثبت التحالف العربي أن البحر الأحمر بحيرة عربية، وأن باب المندب خط أحمر، كما أن مضيق هرمز خط أحمر. كتبت من قبل هنا، وغير هنا، عن خطورة ما سميته بالهلال الشيعي البحري من مضيق هرمز حتى باب المندب، وقلت إن تساهل العرب مع وصول جماعة الحوثي إلى عدن يضع الملاحة في البحر الأحمر ويضع مستقبل الطاقة في خطر، ومن هنا كان دعمي لـ«عاصفة الحزم» لأنها تنبهت لهذا الخطر الاستراتيجي الكبير على أمن الطاقة وأمن البحار في المجال الحيوي العربي.
الملك سلمان أثبت بما لا يدع مجالا للشك أنه ملك ذو رؤية استراتيجية، مدرك لمحددات الأمن العربي والأمن الإقليمي، ومع قيادة كهذه يطمئن العرب على مستقبل بلادهم وأمنها. هذا النوع من القيادة الحازمة هو ما تحتاجه المنطقة العربية اليوم.
ومع ذلك لا بد من تحذير أخير من خطورة الاندفاع، فلا بد من تحديد ما يمثل النصر بشكل ضيق جدا، ولا بد من تحديد استراتيجية الخروج والسياسات اللاحقة لها، فقد كسب تشرشل الحرب العالمية الثانية ومع ذلك لم يكسب الانتخابات. أعرف أن السياق مختلف، لكن إدارة سياسة ما بعد الحرب تقع في ذات أهمية الحرب.
مهم جدا في قمة سلمان أنها كانت تأكيدا على عودة مصر كلاعب إقليمي حقيقي بعد مؤتمر شرم الشيخ الاقتصادي، فوجود سلمان بن عبد العزيز في شرم الشيخ كان أساسيا في تعزيز الدور المصري وشرعنة النظام الجديد عالميا.
لكن الذي لا يشك فيه أحد هو أن كل من شهد قمة شرم الشيخ، عدوًا كان أو صديقًا، لا بد أن يعترف بأنها كانت قمة الملك سلمان.. قمة القرار، وقمة الحزم.. حيث واشنطن مدينة للرياض لأول مرة وليس العكس.
نقلا عن الشرق الاوسط
جميع الحقوق محفوظة للأقباط متحدون © 2004 - 2011 www.copts-united.com