جلست كغيرى من الناس أشاهد مناظرة الأستاذ إسلام بحيرى ضد الشيخين أسامة الأزهرى والحبيب على الجفرى، وهى مناظرة كما تعلمون تدور حول التراث والأئمة وعلم الحديث، وهى أمور من الواجب أن يجرى النقاش فيها لكن فى المكان المخصص لها لا فى الإعلام حيث تُعرَض على عامة الناس، إذ من شأن هذه المناظرات فى هذه الفترة بالذات أن تزيد المجتمع انقساماً، كما أن المشاهد العادى خرج من تلك المناظرة دون أن يفهم شيئاً، فلن يبحث المواطن الأمى أو نصف المتعلم الذى جلس أمام التليفزيون عما إذا كان البخارى انتقد مسلم أم لم ينتقده، بل قد يظن بعضهم أن البخارى انتقد «مسلم» أى أحد المسلمين! وقد يتأثر المشاهد الطيب بالخطاب الروحى المشاعرى الذى اختتم به الحبيب الجفرى المناظرة، وقد يقع فى ظنه آنذاك أنه كان يصلح بين طرفين متخاصمين وصل الخصام بينهما إلى أشده، لكنه فى الوقت ذاته لن يستطيع معرفة سبب الجدل الذى ثار بين هؤلاء القوم، حتى إن حارس العقار الذى يسكن فيه أحد أصدقائى بادرنى قائلاً عندما رآنى: «هل صحيح يا أستاذ أن بحيرى عاوز يقتل الأئمة الأربعة، فقد كان المذيع يقول هذا الكلام»، فقلت له: «لا يا عم مغاورى فالكلام كان مجازياً لا حقيقياً»، فنظر لى وهو يقطب جبينه وكأننى عقَّدتُ الموضوع عليه ثم قال: «صحيح وهوَ هايجيب الأئمة الأربعة منين ما هما عايشين فى العراق مع جماعة داعش، أصل بحيرى كان بيقول إنهم عملوا داعش». لم أرد على عم مغاورى وقد أسقط فى يدى، فاستكمل قائلاً: «لكن يا بيه الشيخ الأزهرى قال إن بحيرى هوَ اللى من داعش، الحقيقة أنا اتلخبطت».
لك أن تعلم أن هذا هو ما وصل إلى كثير من الناس دون مبالغة، فبغض النظر عما وصل إليه عقل حارس العقار فإن المصطلحات التى سيطرت على ألفاظ المتناظرين جعلت فهم الأمر عويصاً على عامة المشاهدين، لذلك ما هى المصلحة التى بحثت عنها تلك القناة وهذا المذيع، هذه مناظرة كان يجب أن يبتعد عنها أى شخص يبحث عن مصلحة الإسلام، ومع ذلك فقد خرجت من تلك المناظرة بعدة ملاحظات وجدت أنها على درجة كبيرة من الأهمية:
أولاً: لم يكن الشيخ أسامة الأزهرى موفقاً فى تأصيله لأفكاره وظهر تعصبه ورغبته فى استعراض ما يحفظه من أسماء كتب الحديث، فحين أراد أن ينتصر إلى ما أورده البخارى من أن سن السيدة عائشة (رضى الله عنها) حين تزوجها الرسول (صلى الله عليه وسلم) كان سبع سنوات، فإنه قاس هذا الأمر على إلقاء أم سيدنا موسى لرضيعها فى اليم امتثالاً لوحى من الله سبحانه وتعالى بذلك إن خافت عليه! ووجه استدلال الشيخ الأزهرى بهذه القصة هو ظنه أن زواج الرسول (صلى الله عليه وسلم) من السيدة عائشة وهى فى سبع سنوات كان وحياً كالوحى إلى أم موسى، وهذا القياس فاسد من كل أوجهه، إذ لم تكن أم موسى مُشرِّعة لقومها فتتبعها النساء بإلقاء أبنائهن فى اليم إن خفن عليهم، فى حين أن الرسول (صلى الله عليه وسلم) صاحب رسالة يُشرِّع لأمته بوحى من الله، كما أن أحداً لم يقل إن الرسول (صلى الله عليه وسلم) تزوج من السيدة عائشة فى هذه السن بأمر الوحى الإلهى كالوحى إلى أم موسى، ومن ناحية أخرى فإن الشيخ الأزهرى عاد وقال إن زواج الرسول من طفلة فى السابعة إنما كان من عادات قومه وزمنه ولنا أن نغيره بتغير الزمان وأحوال الناس، وقول الأزهرى فى هذا مردود عليه، إذ إن معنى أن زواج الرسول (صلى الله عليه وسلم) من صبية صغيرة كان مرتبطاً بعادات الزمن وأن من حقنا أن نغيره فى هذه الأيام، وبما أن أفعال الرسول فى عقد الزواج وفسخه مرتبطة بتشريعات للأمة سواء من حيث الوجوب أو الندب والإباحة أو الكراهة أو التحريم، فمعنى هذا أن أى تشريعات شرعها الرسول لنا يجوز لنا أن نعدل عنها إذا تغيرت أحوال الناس والزمان، ومعنى هذا أيضاً أن التشريع هو الذى يخضع للزمن وليس الزمن هو الذى يخضع للتشريع، ولا أظن أن الشيخ أسامة الأزهرى كان يقصد ما ترتب على استدلاله، مع أننى مع تغير التشريع بتغير الزمن.
ثانياً: أحزننى هذا الكبر الذى استولى على قلوب تسير فى طريق الله، فالكبر هو مدخل إبليس إلى العلماء، وأسوأ المتكبرين هو عالم تباهى بما يحفظه، وبغض النظر عن الشخص الذى أقصده بهذه العبارة فإنها تصلح لاثنين من المتناظرين، قال أحدهما وهو إسلام بحيرى عبارات يُفهم منها أنه أول من قال، وأول من أبدع، وأول من وضع منهجاً، وأن الدنيا قبله كانت تسير فى اتجاه ثم أصبحت بعده تسير فى اتجاه آخر، وحين جاء ذكر الدكتور العالم سعد هلالى قال بحيرى: سعد هلالى معرفش مين قبل مين، أنا قبله أو هو قبلى! ومن ناحية أخرى زاد الحزن على قلبى عندما كان بحيرى يتحدث عن حديث «خلق الدنيا...» للإمام مسلم إذ قال إن البخارى انتقد هذا الحديث وقال إنه من وضع كعب الأحبار، فأنكر الشيخ الأزهرى ما قاله بحيرى إنكاراً تاماً، فلما قال له بحيرى: وهل تعرف كل العلم؟ قال الأزهرى: نعم فى الحديث أعرف كل العلم!! وهو قول يدل على كبر تملك من قلبه وسيطر على جنانه، فالأزهرى كغيره من الحفاظ، من الممكن أن نطلق عليه «الحافظ بن الأزهرى» لكنه مع ذلك لا يمكن أن يمتلك ناصية كل كتب الحديث، فقد كان قول بحيرى صحيحاً مائة بالمائة وهو ليس من علماء الحديث، وكان قول الأزهرى خطأ بالكلية وهو من علماء الحديث، فالحديث المذكور رواه مسلم فى صحيحه (2789)، وقد أعله غير واحد من أهل العلم، وحكم الإمام البخارى وغيره أنه من كلام كعب الأحبار، أخذه عنه أبوهريرة، وأتمنى أن يراجع الأزهرى نفسه ويعترف علناً أمام كل المشاهدين بخطئه.
ثالثاً: اختلف الفريقان حول سؤال أرى أنه مربط الفرس فى الصراع الدائر بين أهل النقل وأهل التجديد، وهو «هل الدين علم»؟
الذى أعرفه أن الدين هو النص الإلهى المطلق الذى أنزله الله علينا، أما التدين فهو الاعتقاد، والاعتقاد لا يشترط فيه العلم بالمعنى الاصطلاحى، لكن يشترط فيه الإيمان، والإيمان أبسط من تعقيدات بعض المتدينين لأنه حالة قلبية شعورية نورانية، لذلك أشار الرسول إلى قلبه وقال «التقوى ها هنا»، وقال لأحد الصحابة «قل آمنت بالله ثم استقم».. هذا هو ما ينبغى أن يكون عليه التدين والإيمان، ولكن أجيالاً من المسلمين صنعت علماً للتدين وليس للدين إذ لا يستطيع أحد أن يصنع علماً للدين، إذ فرضية أن الإنسان من الممكن أن يصنع علماً للدين تعنى أن الإنسان يكون شريكاً لله فى الدين المطلق، لكننا بشر والإنسان نسبى ولا طاقة لنا بالإحاطة بالمطلق، ولكننا من الممكن أن نصنع علماً للتدين ينظم فهم الناس النسبيين للنصوص المطلقة، وهذا العلم يخضع للتطور لأن أى نسبى لا يمكن أن يظل ثابتاً بل هو يتغير بتغير الزمان بالمكان، والمشكلة الكبرى أن أجيالاً متتابعة من المسلمين اعتبرت الدين علماً، واعتبرت التدين ديناً، واعتبرت أن علوم فهم المتدينين للدين المطلق ينبغى أن تظل ثابتة دون تغيير مثلها مثل الدين المطلق، ولو عرفنا أهمية تجديد علوم التدين لتم حل الإشكالية لأننا ما زلنا منذ أكثر من ألف عام على نفس علوم التدين الخاصة بالقدماء، رغم أنها ينبغى أن تدخل فى تاريخ العلم لا العلم نفسه.
جميع الحقوق محفوظة للأقباط متحدون © 2004 - 2011 www.copts-united.com