د.عبدالخالق حسين
تعتبر بريطانيا، و إنكلترا تحديداً، مسقط رأس الديمقراطية الحديثة، حيث صادف قبل أسابيع مرور 800 عام على صدور الميثاق العظيم (Magna Carta). ورغم أن هذا الميثاق لا يعتبر شيئاً فيما يخص حقوق الشعب مقارنة بما عليه الوضع اليوم، لأنه كان يعني فقط حق النبلاء الاقطاعيين بمشاركة الملك (صاحب الحق الإلهي) في صنع القرار السياسي، إلا إنه كان ثورة في وقته، ويعتبر النقطة التي بدأت منها الديمقراطية الحديثة التي بلغت مستواها الراقي اليوم.
توجه الشعب البريطاني يوم 7 مايس/أيار 2015 لانتخاب حكامه بطريقة حضارية هادئة وذلك عن طريق قصاصة ورقة انتخابية بدلاً من الرصاص (Ballet instead of bullet). والغريب أنه لأول مرة جاءت النتائج صادمة، فاقت توقعات جميع السياسيين والإعلاميين وأساتذة السياسة، إلى حد أنه حتى زعيم حزب المحافظين المنتصر، لم يحضِّر خطاب الانتصار مسبقاً.
وكانت هزيمة شنيعة لحزب العمال بقيادة إدوارد مليباند، وأشنع منها بكثير لحزب الديمقراطيين الأحرار الذي خسر معظم مقاعده، حيث خسر 49 مقعداً من مجموع 57. وجاءت النتائج كالتالي:
331 مقعدا لحزب المحافظين باغلبية 12 مقعد، وبزيادة 24 مقعداً عن انتخابات 2010، وهذه أغلبية مطلقة مريحة تخول زعيم الحزب تشكيل الحكومة لوحده، و232 لحزب العمال (بخسارة 26)، و56 للحزب القومي الاسكتلندي (بزيادة 50)، و8 مقاعد لحزب الديمقراطيين الليبراليين (بخسارة 49). و23 مقعداً للأحزاب الأخرى (بزيادة 2). نسبة المشاركة في التصويت 66.1% وهي أعلى نسبة منذ انتخابات عام 1997. (تقرير بي بي سي)*.
والمنتصر الأكبر في هذه الانتخابات، الذي فاجأ الجميع، هو الحزب القومي الاسكتلندي حيث صعد رصيده من 6 مقاعد في انتخابات 2010، إلى 56 مقعداً من مجموع 59، وألحق هزيمة ساحقة بالأحزاب الوطنية عابرة القوميات: العمال، والمحافظين، والديمقراطيين الأحرار، حيث فاز كل منهم بمقعد واحد فقط في اسكوتلاندا، وخسر العمال والأحرار حتى قيادي حزبيهم، وهم سياسيون بارزون ومعروفون بالنزاهة والاخلاص، وأصحاب تاريخ عريق، وعلى سبيل المثل فقد خسر القيادي في حزب العمال دوكلاس ألكساندر الذي كان وزير خارجية الظل في الحزب، وكان عضواً في البرلمان لـ 18 سنة، خسر أمام مرشحة الحزب القومي الاسكتلندي، وهي غير معروفة، إذ مازالت طالبة جامعية في العشرين من عمرها، وبذلك تكون أصغر نائبة الآن في تاريخ بريطانيا منذ القرن التاسع عشر.
ومما يجدر ذكره أن حزب استقلال المملكة المتحدة (UKIP)، الذي تأسس خصيصاً لإخراج بريطانيا من الوحدة الأوربية، فاز بمقعد واحد فقط، وخسر زعميه نايجل فراج الذي استقال فور إعلان خسارته. كما وأعلن كل من زعيمي العمال والأحرار استقالتهما.
فما هو تفسير هذه الظاهرة؟
أولاً، حزب المحافظين: لقد تفاجأ الحزب نفسه بهذا الفوز، 331 مقعدا من مجموع 650، وهذه أغلبية مطلقة مريحة تخول زعيم الحزب، ديفيد كامرون، تشكيل الحكومة لوحده كما سلف. وما يجدر ذكره أن هذا الحزب لم يتمتع بأية شعبية في أسكتلاندا (5.3 مليون نسمة)، ولكنه أقرب إلى الاتجاه القومي الإنكليزي، لذلك يعتمد على شعبيته في إنكلترا (53.5 مليون نسمة)، فمنذ عدة دورات انتخابية لم يفز هذا الحزب في سكوتلاندا بأكثر من مقعد واحد، وبذلك لم يكن لديه ما يخسره في الانتخابات الأخيرة في هذا الجزء من بريطانيا. و بعد انتخابات عام 2010 خرج الحزب كصاحب الكتلة البرلمانية الأكبر (ولست الغالبية المطلقة)، لذلك تحالف لأول مرة خلال سبعين سنة مع حزب الديمقراطيين الأحرار لتشكيل الحكومة، وحقق مكتسبات إقتصادية لا بأسها. وكرد فعل لصعود المد القومي الاسكتلاندي بعد استفتاء للانفصال في العام الماضي أدى إلى صعود النزعة القومية عند الإنكليز أيضاً، مما استفاد منه المحافظون على حساب حزب العمال والأحرار.
ثانياً، حزب العمال، خسارة هذا الحزب لم تكن بسبب ضعف زعيمه، أو خطأ في برنامجه الانتخابي (المانيفستو)، أو تقاعس وتقصير في حملته الانتخابية، فزعيمه شاب مليء بالنشاط والحيوية، وهو سياسي جيد، خطيب مفوه، يسعى لتحقيق العدالة للجميع، وخاصة لصالح الشغيلة والشرائح الاجتماعية ذات الدخل المحدود. وقاد حملته الانتخابية بمنتهى الكفاءة والجدارة، وباعتراف خصومه، ولكنه كما قال هو، خسر بسبب صعود النزعة القومية، وربما للنظرة الخاطئة عن الحزب أنه متساهل مع الهجرة التي تشكل هاجساً لدا 70% من الناخبين.
ثالثاً، حزب الديمقراطيين الأحرار: هذا الحزب رغم أنه ليبرالي، إلا إنه أقرب إلى الاشتراكية حتى من حزب العمال، ويتعاطف مع المهاجرين، ولكنه بعد انتخابات عام 2010، وعدم فوز أي من الحزبين الكبيرين (المحافظون والعمال) بالأغلبية المطلقة، فكان لا بد أن يتحالف مع أحدهما لتشكيل الحكومة،
وكان حزب المحافظين هو صاحب أكبر كتلة برلمانية، لذلك تحالف معه وفق اشتراطات محددة اتفق عليها الجانبان، وشكلا حكومة التحالف. إلا إن المشكلة برزت بعد أن قام حزب المحافظين، الشريك الأكبر في الحكومة، بإجراءات اقتصادية تطلبت التقشف وفرض استقطاعات على الخدمات، أثرت سلباً على الطبقات الدنيا، ومن هذه الاجراءات زيادة أجور الدراسة على طلبة الجامعات إلى 9 آلاف جنيه سنوياً. فالقى الشعب لوم مساوئ المحافظين على كاهل الديمقراطيين الأحرار، خاصة وقد وعد زعيم الحزب (نيكولاس كليك) في حملته الانتخابية لعام 2010،
أنه سيقف ضد أية زيادة في الأجور الدراسية، فحنث بوعده، وبذلك خسر مصداقيته وعوقب بشدة من قبل الناخبين. ولكن إنصافاً للتاريخ، كان وجود الأحرار في الحكومة عبارة عن صمام أمان، إذ خفف من غلواء المحافظين في فرض المزيد من التقشف و الاستقطاعات، كما ويعود الفضل لهذا الحزب في تخفيف الضرائب على ذوي الدخل المحدود. ولكن الغالبية لا يعرفون هذه الحقائق، فعاقبوا الأحرار بإجراءات المحافظين، وخاصة في اسكتلاندا و مقاطعة ويلز. ولذلك خسر هذا الحزب 49 مقعداً من 57، كما وخسر كل قياديه، ما عدا زعيمه السيد كليك الذي فاز بمقعده، ولكنه استقال من قيادة الحزب كما هو التقليد في بريطانيا.
واللافت للنظر، أن هناك مشكلة تواجه ديفيد كامرون، زعيم حزب المحافظين، في تشكيل حكومته الثانية، وهي عدم وجود نواب اسكتلانديين في حزبه للمشاركة في الحكومة الجديدة، إذ راح الكساندر سامون، زعيم الحزب القومي الأسكتلاندي سابقاً، والمرشح الأقوى لزعامة كتلة النواب الأسكتلانديين في مجلس العموم حالياً، راح يعيب على السيد كامرون أنه يفتقر إلى الشرعية لفرض حكمه على أسكتلاندا لعدم وجود سكوتلانديين في حكومته. ولكن رغم ما حققه الحزب القومي الأسكتلاتدي من انتصار ساحق في هذه الانتخابات، إلا أنه لا فائدة كبيرة من هذا العدد من نوابه في مجلس العموم، لأنه أولاً، لن يشارك في الحكم، وثانياً، الحزب الحاكم يتمتع بالغالبية المطلقة ما يجعله قاجراً لوحده على تمرير أي قانون يريد دون مساعدة من أحد.
دور النظام الانتخابي
هناك عامل آخر ومهم ساعد على تضخيم خسارة الأحزاب المندحرة بشكل غير عادل، وهو النظام الانتخابي، إذ تتبع بريطانيا نظام الفائز الأول (First past the post)، الذي بموجبه تم تقسيم بريطانيا إلى 650 دائرة انتخابية وهو عدد مقاعد مجلس العموم البريطاني. و في هذا النظام المرشح الفائز هو كل من يحصل على الأغلبية النسبية (وليست المطلقة) من الأصوات، بغض النظر عما إذا كان أقل أو أكثر من 50%. وهذا يؤدي إلى إجحاف بحق البعض، بعكس النظام الآخر الأفضل في رأيي، وهو نظام التمثيل النسبي (Proportional representation=PR
، حيث تعتبر البلاد كلها دائرة انتخابية واحدة. ولتوضيح الفرق بين النظامين نذكر المثال التالي: حصل المحافظون في الانتخابات الأخيرة على زيادة في الأصوات بنسبة 0.8% على ما حصلوه عام 2010، وهذه الزيادة الضئيلة في الأصوات حققت لهم 24 مقعداً إضافياً، بينما حصل حزب العمال على زيادة 1.5% من الأصوات ومع ذلك خسر 26 مقعداً. ومثال آخر هو، أن حزب الـ(UKIP) رغم أنه حصد 3,881,129 صوتاً (12.6% )، إلا إنه لم يحصل على أكثر من مقعد واحد فقط، بينما الحزب الاسكتلندي القومي حصل على 1,454,436 صوتاً (4.7%)، حصد 56 مقعداً. وهذا إجحاف واضح في هذا النظام. والسبب هو لأن أصوات الـ (UKIP) كانت موزعة على كل بريطانيا، بينما أصوات الحزب القومي الاسكتلاندي محصورة في إقليم اسكتلاندا فقط.
ووفق هذا النظام جاءت الأرقام في الانتخابات الأخيرة كالتالي:
مجموع الذين يحق لهم التصويت: 46425386
مجموع المشاركة في التصويت: 32670180 (66.1%)
نسبة التصويت للحزب الفائز الحاكم: 36.9%
نسبة التصويت للأحزاب الأخرى: 63.1%
وهذا يعني أن نحو ثلثي الناخبين لم يصوتوا للحزب الحاكم
والجدير بالذكر، أن بريطانيا تتبع نظام الـ (PR) في الانتخابات البرلمانية للأقاليم، ولا أعرف لماذا لا يطبقون هذا النظام لانتخاب نواب البرلمان المركزي (مجلس العموم).
الاستنتاج والدروس
أولاً، من مساوئ نظام الفائز الأول (First past the post) تكون الحكومة المنتخبة هي حكومة الأقلية، ولا تمثل الغالبية العظمى من الشعب، وفيه تبديد لثلثي أصوات الناخبين.
ثانياً، أن نظام التمثيل النسبي (PR)، المتبع في أغلب الدول الأوروبية، هو الأفضل لأنه أكثر عدالة، حيث يحصل كل حزب على نسبة من المقاعد تعادل ما يحصل عليه من نسبة الأصوات. فحزب الـ (UKIP) مثلاً حصل على 12.6% من الأصوات، فمن الإنصاف أن يحصل على 12.6% من مقاعد البرلمان أي نحو 82 مقعداً بدلاً من مقعد واحد، والحزب القومي الأسكتلندي أن يحصل وفق التمثيل النسبي على 30 مقعد بدلاً من 56.
ثالثاً، الفوز الساحق الذي حققه الحزب القومي الأسكتلندي لا يعني أنه لو أجري استفتاء غداً حول الاستقلال، لصوت الشعب الاسكتلاندي للإستقلال، وإنما تبقى نسبة الذين قالوا لا في استفتاء العام الماضي هي نفسها، فمجموع الذين لم يصوتوا لمرشحي الحزب القومي في الانتخابات البرلمانية الأخيرة يفوق عدد الذين صوتوا لهم.
رابعاً، وخلافاً لما يعتقده بعض العراقيين الذين يفضلون المستقلين على الحزبيين والانتخاب الفردي، أي نظام الفائز الأول على التمثيل النسبي، الناخب لا يثق بالفرد المستقل، ولا يمنح صوته لأي فرد على أساس شخصيته وشهادته وثقافته ومهما كانت مكانته، بل يصوت للتنظيم السياسي وما له من تاريخ وبرنامج سياسي، وهذا واضح من تهاوي رؤوس كبيرة وفوز مرشحين مجهولين، لا لشيء إلا لأنهم من الحزب الفلاني. وهذا هو المتبع في جميع الدول الديمقراطية العريقة.
abdulkhaliq.hussein@btinternet.com
http://www.abdulkhaliqhussein.nl/
ـــــــــــــــــــــــــــــــــ
* نتائج الانتخابات البريطانية لعام 2015، بالجداول والبيانات والخرائط
http://www.bbc.co.uk/news/election/2015/results
جميع الحقوق محفوظة للأقباط متحدون
© 2004 - 2011
www.copts-united.com