من المؤسف أن حركة الإصلاح الدينى التى ظهرت مع مطلع العصور العربية الحديثة لم تنتج علوماً جديدة ولا واقعاً جديداً، بل استعادت عصور الشقاق وحرب الفرق العقائدية والسياسية التى ضربت الأمة بعد مقتل عثمان (رضى الله عنه). ولن أدخلك عزيزى القارئ فى جدال نظرى عقيم حول الفشل الذريع الذى أنجزته حركة الإصلاح المدّعاة، لكن سأقول لك شيئاً واحداً، هو «من ثمارهم تعرفونهم»، وهنا أسألك ما ثمار دعاة ورواد تلك الحركة بعد مرور ما يقرب من قرن ونصف القرن على ظهور طلائعهم الأولى؟
ثمارهم كما ترى أمة تتكالب عليها الأمم، والجديد مع حركة الإصلاح الدينى الحديثة منذ القرن التاسع عشر أنها أنتجت أجيالاً وجماعات وفرقاً من المسلمين تتكالب من الداخل على أمتها ووطنها، وهم شركاء أصليون فى حالة الضعف التى تعيشها، وهم فاعلون بامتياز فى بذل الوسع فى هدم المعبد على كل من فيه من خصومهم ومن أنفسهم!
وربما يكون من أهم أسباب ذلك غياب العقلانية النقدية، على الرغم من أن العقلانية النقدية فى جوهرها هى التى قامت عليها دعوتنا منذ إبراهيم (عليه السلام)، وهى العقلانية التى دعا إليها القرآن الكريم وقام عليها الشرع، والقارئ ليس بحاجة إلى أن أعدد له آيات القرآن وأقوال النبى الصحيحة التى دعت إلى استخدام العقل والتى قامت عليها حضارتنا قبل أن تتحول إلى عصور المتون والشروح والحواشى.
لكن للأسف -مجدداً- تصوَّر المتأخرون العقل على أنه «العقل النقلى» لا «العقلى النقدى»! وهنا ظهر التطرف، وتجمد الخطاب الدينى كما توقف الاجتهاد فى علوم الدين، حيث المعالجة النقلية للعلوم، وحيث المعالجة الإنشائية المفرطة فى الخطاب الشفهى والمكتوب. وظن المتأخرون أن هذه العلوم إلهية مقدسة، لا يكون التعامل معها إلا بالحفظ، وأن تصبح عالماً هو أن تحفظ المتون وتقرأ الحواشى!
إن العلوم التى نشأت حول الدين علوم إنسانية تقصد إلى فهم الوحى الإلهى، فالقرآن إلهى لكن علوم التفسير والفقه وأصول الفقه وعلوم مصطلح الحديث وعلم الرجال أو علم الجرح والتعديل... إلخ، علوم إنسانية أنشأها بشر، وهى قابلة للاجتهاد والتطور والتطوير، وهذه مسألة واضحة وليست اكتشافاً، لكن المتعصبين، الذين تجمد معهم كل شىء، رفضوا الاجتهاد وتمترسوا خلف التقليد. وهم لا يعرفون -ولا يريدون أن يعرفوا- أن من المنطق الفاسد والخطل الزعم بأن أى علوم بشرية هى مبادئ وقواعد يقينية مطلقة تصلح لكل زمان ومكان. فالبشر ذوو عقول نسبية متغيرة، والحقيقة تتكشف تدريجياً ولا تأتى دفعة واحدة إلا من خلال «وحى»، بل إن الوحى نفسه جاء منجَّماً عبر ثلاث وعشرين سنة، وترك مساحة للجهد البشرى فى اكتشاف الحقائق والوقائع.. «قُلْ سِيرُوا فِى الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ...» (العنكبوت 20)، «وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا...» (العنكبوت 69).. والآيات ليست فى الكتاب المقروء فقط، بل فى الآفاق والأنفس أيضاً «سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِى الْآفَاقِ وَفِى أَنفُسِهِمْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ...» (فصلت 53).. والآيات ليست «كلمات» و«ألفاظ» تُتلى فحسب بل «وقائع» و«قوانين» يُبحث عنها وتُكتشف فى الأرض والأنفس «وَفِى الْأَرْضِ آيَاتٌ لِّلْمُوقِنِينَ* وَفِى أَنفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ» (الذاريات 20-21).. كما أن الآيات «سنن» و«عبر» تُكتشف فى التاريخ «قُلْ سِيرُوا فِى الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلُ...» (الروم 42).
إن الوحى الإلهى بالنسبة إلينا نجده فى الكتاب. وهذا الكتاب هو الكتاب الإلهى بالمعنى الواسع (الكتاب المقروء «القرآن» مبيَّناً بالسنة الصحيحة، وهو أيضاً الكتاب المشاهَد «السموات والأرض»، وهو أيضاً «التاريخ» و«الأنفس»)؛ فكلها تشتمل على آيات إلهية كما نص القرآن الكريم. ومن ثم فإن على الإنسان أن يسعى لمعرفة الحقيقة بالبحث فى الكتاب، والكون، وفى التاريخ والنفس، مستخدماً مناهج البحث العلمى سواء فى العلوم الطبيعية والرياضية أو العلوم الإنسانية والاجتماعية. وهى علوم -مرة أخرى- متغيرة ومتطورة بتطور الجهد والاجتهاد البشرى.
ولذا فإن تجمد العلوم التى نشأت حول النص الدينى بَعُدت عن مقاصد هذا النص، وحولته من نص «ديناميكى» يواكب الحياة المتجددة إلى نص «استاتيكى» يواكب زمناً مضى وانتهى! واستمر الوضع هكذا على الرغم من التغيرات الجذرية التى حدثت فى الواقع وفى العلوم الاجتماعية والإنسانية. وعندما ظهر دعاة الإصلاح لم يقم أى منهم بمحاولة «تطوير علوم الدين»، بل قاموا «بإحياء علوم الدين» كما تشكلت فى الماضى، ولم يقوموا بالعودة إلى الكتاب فى نقائه الأول، بل عادوا إلى المنظومة التفسيرية التى أنتجتها ظروف سياسية واجتماعية واقتصادية لعصور غير عصورنا، ومن هنا استعادوا كل المعارك القديمة: معارك التكفير، ومعارك الهوية، ومعارك فقه الحيض والجنس والجسد، ومعارك التمييز بين الجنسين. ولم يدخلوا المعارك الجديدة: معارك التنمية، ومعارك إنتاج العلوم الطبيعية والرياضية والاجتماعية والإنسانية، ومعارك الفساد، ومعارك الحرية، ومعارك الفقر والجهل والأمية، ومعارك الدفاع عن الدولة الوطنية.
من هنا فإن تفكيك الخطاب التقليدى والبنية العقلية التى ترقد وراءه بات ضرورة ملحة.
نقلا عن الوطن
جميع الحقوق محفوظة للأقباط متحدون © 2004 - 2011 www.copts-united.com