فى هذه الحقبة- التى أرجو من الله ألا تطول أكثر من هذا- نحنُ لا نُتقنُ فهم وأداء الخطاب بشكل عام، خطاب سياسى أو دينى أو قانونى أو إعلامى أو اقتصادى أو دولى، نحن لا نُتقن أبسط قواعد الكلام، ونتجرأ على أبسط قواعد التفكير، وننسى أن الكلام عنوانٌ على عقل صاحبه وفكره وعُمقه المهنى والإنسانى على السواء، هذا العُمق المهنى والإنسانى هو المعيار المفقود فى كل مؤسسات التربية والتعليم والتدريب التى تتولى تأهيلنا وتدريبنا، نتخطى المعايير ونميلُ إلى الفهلوة فى كل شىء.
كيف أصبح هذا الرجل سياسياً؟! الله أعلم. كيف أصبح هذا الرجل أكاديمياً؟! الله أعلم. كيف أصبح هذا الرجل قاضياً؟! الله أعلم. كيف أصبح هذا الرجل إماماً وداعية؟! الله أعلم. كيف أصبح هذا الرجل سفيراً؟! الله أعلم.
تستطيع أن تسمع وتراقب وتشاهد وتقترب من كثير ممن تراهم يتزاحمون على قمم المناصب- فى مصر- وسوف تستغرب وتتساءل: من جاء بهذا الكائن إلى هُنا؟! من وصل بهذا الكائن إلى هذه القمة؟!
هذه هى الصورة عند القمة، أى على مستوى الدولة، طبعاً فيها استثناءات، فيها أناسٌ يبتعدون عن الفهلوة ما استطاعوا، لكنهم يظلون فى عداد الأقلية، لسبب بسيط: انخفاض السقف الفكرى والمهنى والثقافى والعلمى لمن يديرون عملية الفرز نفسها، لمن بيدهم القول فى تصعيد هذا وإهمال ذاك، قدرتُهم على تذوق الكفاءة والنبوغ محدودة، لأنهم من محدودى النبوغ، قدرتُهم على التعامل مع الكفاءات من المقاس الكبير كذلك محدودة، لأنهم يستسهلون الرجال من المقاسات الصغيرة.
أما عند القاعدة، وعلى مستوى الأمة، فعند المصريين استعداد فطرى للنبوغ، مهما كانت قسوة الظروف، ومهما كان ضعف الإمكانات، من هذه الأمة جاء سيد درويش، عبدالوهاب، أم كلثوم، مصطفى كامل، سعد زغلول، لطفى السيد، الشيخ مصطفى عبدالرازق، الشيخ أمين الخولى، الشيخ ثم الأستاذ- بعد ذلك- أحمد أمين، طه حسين، العقاد، السنهورى، شلتوت، نجيب محفوظ، قوائم من رجال ونساء، لا يحصيهم الحصر، أعطوا مصر معنى وجودها المعاصر.
هذا النبوغ أخذ فى الصعود مع دولة محمد على وخلفائه، وقد استفادت منه دولة عبدالناصر فى أول عهدها، ولكن دولة عبدالناصر وخلفائه من بعده من السادات حتى السيسى هى من نزل بالمعايير من الكفاءة إلى الولاء، ومن الخبرة إلى الثقة، ومن احترام الرجل لنفسه إلى خوف الرجل من رئيسه.
كل ما سبق القصد منه: تخلف الخطاب الدينى جزء من تخلف الخطاب السياسى، وتخلف الخطاب السياسى ناتج عن انخفاض سقف القيادة فهى فى النازل من بعد ناصر والسادات إلى يومنا هذا، والمشكلة فى انخفاض السقف الفكرى للقيادة السياسية أنه هو من يحدد السقف الفكرى للخطاب بكل ألوانه وتخصصاته، خاصة فى مجتمعنا الذى يظن فيه الرئيس- أى رئيس- أنه السقف الأعلى لكل شىء.
ليس مطلوباً من القيادة أن تكون من المفكرين، لكن أن تكون من أهل التفكير، وممن يحترمون فضيلة التفكير، وممن يؤمنون بحق الناس فى التفكير، والأهم من كل ذلك: أن تؤمن القيادة أنه لا يعيبها أن يكون فى البلد آلاف يفكرون ويفهمون ويقيّمون الأمور والأحداث والمواقف والرجال بأرفع مما تفكر القيادة، فسقوف التفكير ينبغى ألا يتم تحديدها ولا تقييدها بسقوف القيادة.
لكن للأسف الشديد: هذا هو جوهر ما حدث فى الستين عاماً الماضية، أى على مدار الحقبة العسكرية الأولى، حيث فرضت القيادة سقفها المنخفض على كل المجالات، من الجامعات إلى اتحادات الفلاحين والعمال، من الصحافة إلى القضاء، من الثقافة إلى الاقتصاد، من الدين إلى الفن، فلم تترك أى مجال يتنفس إلا من خلال رئتيها المعلولتين، ولم تترك أى مجال يفكر إلا فى سياق إشاراتها الحمراء، وكانت الخلاصة هذا الذى تراه، نادراً ما تجد مسؤولاً يعرف يتكلم بطلاقة، نادراً ما تجد مسؤولاً يعرف يفكر باستقلال، ثم نادراً ما تجد رئيساً أو مرؤوساً- فى أى مؤسسة حكومية- يفكر بابتكار أو بإبداع.
آخرُ الكلام: هذا الخطاب الدينى المتخلف هو الابن الشرعى لهذا الخطاب السياسى المتخلف.
نقلا عن المصرى اليوم
المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع
جميع الحقوق محفوظة للأقباط متحدون
© 2004 - 2011
www.copts-united.com