كثير ما أشعر بالأسى من أجل أصدقائي ومن أجل نفسي، وأنا أمر على بروفايلات الفيس بوك المسجلة لدي، لأصرخ صرخة يائس وأقول: يا الله.. هل أصبحنا إلى هذه الدرجة مثيرين للشفقة؟
من المفترض أننا عبر هذا الموقع الاجتماعي، نمارس حياتنا الاجتماعية من تواصل ومشاركة وجلسات حوار وحَكيْ، أي أننا نمارس نشاطنا الطبيعي كحيوانات اجتماعية متطورة عقليا، وإن كان هذا الموقع يسمح لبعضنا من خلال التستر وراء صور زائفة وأسماء مستعارة، ليقوم بالتعبير عن رأيه في شأن سياسي أو جنسي أو إلحادي، إلا أن كثيرا منا يفصح عن شخصيته الحقيقية، ليتواصل بذاته مع أحبائه.
عندما نستيقظ صباحا، وربما قبل أن نلقي بتحية الصباح على أبنائنا أو أهل منزلنا أيا كانت صفتهم، نهرع إلى صفحات الفيس بوك للبحث عن صورة وردة أو فنجان من القهوة ونخط جملة فلسفية نحاول أن نعبر من خلالها عن عمق شخصياتنا، ثم نحمّلها على الحائط الفيس بوكي، ونجلس لنترقب التعليقات و”اللايكات”.
عندما تشتري إحدانا فستانا أو حذاء جديدا، ربما تكون حقيبة أو نظارة شمس على الموضة، ونرغب في أن نعرضها على صديقاتنا لنعرف رأيهن، وربما لنسمع كلمات الثناء، فإننا نسارع بتصوير أنفسنا ونحن نرتدي هذه القطعة الجديدة أيا كانت، ثم نُحمّلها على الحائط، وننتظر…..
وصل الأمر لبعضنا أن يصور نفسه وهو طريح فراش المرض، أو معلق له المحاليل في المستشفى.. ينظر لعدسة الكاميرا بذبول، ليحمل الصورة على الحائط طالبا الدعاء أو واصفا احساسه بالألم أو شارحا لحالته المرضية.
شريحة أخرى من الأصدقاء الأعزاء، يرفعون صورا ذات مغزى جنسي، يسيل لعاب المحرومين، كأن تعرض إحداهن صورة لقدميها مقلمتي الأظافر بعناية، مع طلاء أحمر مثير وهي غارقة داخل ملاءة وردية ثم تكتب: “إنني هناك”، أو يصور أحدهم فراشه بعد انتهاء معركة جنسية خاطفة ويعلق: “تم بحمد الله”.
هذا غير الحكم والأمثال والأقوال المأثورة عن كل الشخصيات المقدسة وغير المقدسة، أو إعلان الشكوى من الإحساس بالوحدة أوفقد الحبيب، عقوق الأبناء أوموت الأقارب، خيانة الأصدقاء أو هجر الأزواج، صور الرحلات وسيلفي تحركاتنا اليومية، الرسائل الموجهة والردح لمن ضايقنا.. كل شيء وأي شيء نعلنه على الحائط.. وكم تحملت حائط الفيس بوك منا الكثير.
اعتدت كل صباح وبمجرد رفع جفناي بتثاقل الخارج من ثقل النوم، أن أسحب هاتفي الذكي من على الكومود وأرفعه أمام عيني مباشرة لأرى ما يقوله الأصدقاء من فرح وحزن وحالات انتشاء وسيلفي اليوم الخطير.. ألقي الهاتف على الفراش، ثم أسحب جسدي بتثاقل نحو المطبخ لأجهز كوب النسكافيه، وبمجرد الانتهاء من زيارة الحمام الروتينية، أعود إلى الفراش لأفكر في جملتي الصباحية التي سأعبر بها عن وجودي في الحياة.
بعد أن أكتب جملتي أو أرفع صورتي الجديدة على الحائط، أجلس مترقبة بشغف لكل “لايك” أو تعليق من الأصدقاء لأتفاعل معهم في هيستريا ردود، ثم أبدأ في إحصاء عدد من لم يعلق ومن لم يضغط حتى على أيقونة ” اللايك”.. بهيستريا شديدة أبدأ في اتخاذ المواقف من الأصدقاء، إما بأن يرتفع قدرهم داخل قلبي أو إصدار قرارات بالإقصاء.
هكذا يمر التفاعل الاجتماعي مع الفيس بوك، وتمر الأيام، فإذا ما قابلت أكثر أصدقائي حميمية على الموقع الاجتماعي الأشهر في الواقع، لا نتمكن من الجلوس سويا خمس دقائق، حيث لا كلام ولا حكايات ولا مشاعر حقيقية تربط بيننا بالفعل. حدث ذلك أكثر من مرة وبدأت أشعر فعلا بالعزلة، ما أوقعني في فخ الاكتئاب، خصوصا بعد أن توفت صديقة مقربة لي، ظللت لسنوات، لا أتواصل معها سوى عبر المواقع الاجتماعية وبرامج الشات، فلما توفت فجأة أدركت هول الحقيقة: أنا لم أرها منذ عشرة سنوات.. ياللمصيبة.
لم يكن من السهل الخروج من موجة الاكتئاب تلك، فلقد أمضيت شهورا طويلة لا أستطيع التعامل مع مواقع التواصل الاجتماعي أو برامج الشات، ثم بدأت في اتخاذ قرارات تعقبها إجراءات:
قرار 1: لن أتعامل مع مواقع التواصل الاجتماعي إلا باعتبارها شئ أشبه بالهاتف.. أي أن أتواصل مع أصدقائي القاطنين في بلاد بعيدة عبره.
قرار 2: التعبير عن مشاعري على الفيس بأسلوب مقنن والبدء في الخروج لملاقاة أحبابي على أرض الواقع فورا.
لا أنكر أن الأمر كان صعبا للغاية، فحركة قدمي على الأرض كانت ثقيلة، وكنت أيضا أشعر بالنعاس بمجرد بدء أي حوار مع صديق أو صديقة في الحقيقة، كذلك فالملل يتسرب سريعا إلى قلبي وأعتزم الهروب فورا إلى حائطي على الفيس بوك، لكن قليلا قليلا بدأت أعود إلى صفاتي الرئيسية كحيوان اجتماعي عاقل، تقوم حياته على التواصل المباشر مع أحبته وكذلك أعدائه.
ما أتمناه فعلا أن نعود للتعبير عن مشاعرنا لأحبتنا بعيدا عن برامج الشات، ونقول صباح الخير لذوينا في المنزل قبل أن نلقي بالصباح بطريقة فلسفية مضحكة على حائط الفيس بوك، ونطبخ فعلا على حرارة البوتجاز الحقيقي بعيدا عن صور الأكلات الشهية التي نلصقها على الحائط، ونجري في النادي بدلا من رفع صورة لامرأة لن نشبهها أبدا، وهي على جهاز ” التريد ميل”، ونضحك مع أصدقائنا على المقهى بدلا من الضحك وحيدين على الأريكة ونحن نلصق وجوهنا بهاتفنا الذكي.
ما أتمناه فعلا؛ أن نعود لحياتنا الحقيقية ونترك تلك الافتراضية جانبا ولو قليلا من الوقت، لندق بكعوبنا على حلبة الحياة، بدلا من النقر بأصابعنا على أزرار الكي بورد.
نقلا عن زائد 18
جميع الحقوق محفوظة للأقباط متحدون © 2004 - 2011 www.copts-united.com