لستُ أدرى لماذا هاجت الدنيا وماجت بسبب تسريب أسئلة الامتحانات ووقوعها فى أيدى الطلاب قبل موعد الامتحان؟! لماذا غدت تلك الظاهرة حديث المدينة ومحور تندّر الناس ودليلهم الدامغ (والأوحد فيما يبدو) على فساد المنظومة التعليمية؟! «الامتحان» هو الخطوة النهائية من طقس التعليم على مدار العام. فهل صلُحَ الطقسُ، ليغدو فسادُ خطوة النهاية كارثة؟ ما دليلُ الغاضبين والغاضبات من تسرب أسئلة الامتحانات، على أن هناك تعليماً من الأساس؟ أم تراكم صدقتم تلك المهزلة السنوية التى تُفرّخ لنا كل عام آلاف الأميين، وسميتموها «تعليماً»، فثارت حفيظتكم اليوم من تسرّب الأسئلة وغياب مبدأ تكافؤ الفرص، فيختلط المجتهد بالكسول، والذكى الأريب اللبيب بالخامل العاطل البليد؟! كم مجتهداً فى كل فصل دراسى تبكون على جهدهم، فى مقابل حشود الأميين الجالسين على مقاعد الدرس بجميع الصفوف الدراسية من الابتدائى إلى الثانوى، بل إلى الجامعة، ثم يتخرجون؟ مَن الأَولى بالبكاء عليه؟ حفنةٌ محدودة من المتفوقين النجباء، لا خوفٌ عليهم إن تسرّب سؤالٌ أم لم يتسرّب، أم حشودٌ حاشدة من الأميين تلفظهم الجامعاتُ كل عام إلى الدولة ليشغلوا مناصبَها؟!
لماذا لم يغضب الغاضبون والغاضبات بعد تصريح السيد وزير التربية والتعليم بأن هناك ٣٠٣ آلاف طالب وطالبة بالمرحلة الابتدائية حصلوا على درجة «صفر» فى الإملاء خلال اختبارات القراءة والكتابة التى أقامتها وزارة التربية والتعليم؟!
أين غضبهم حين يصطدمون كل نهار بعشرات من حاملى الشهادات يخفقون فى كتابة أسمائهم على النحو السليم؟! أين يختبئ غضبُهم حين يشاهدون الأخطاء الإملائية والنحوية والصرفية تملأ الصحف وشاشات الفضائيات والإعلانات فى الشوارع والمحال، بل وفى الكتب المدرسية وفى محطة القرآن الكريم بالإذاعة المصرية حين يقول المذيع بثقة: «أحاديثٌ قدسية»، غافلاً أن «أحاديثَ» ممنوعةٌ من الصرف لا يجوز تنوينها بصفاقة، على الأقل فى محطة تبثُّ القرآن الكريم، الذى معجزته اللغةُ والبيان؟!
متى يفطن أولئك الغاضبون والغاضبات إلى أن ما يُسمى «عملية تعليمية» ليست إلا ملهاة تراجيدية إغريقية ركيكة يؤديها ممثلون فاشلون تنتهى بموت كل طاقم التمثيل والجوقة والعازفين ليخرج الجمهورُ وقد حصدوا شيئاً من «التطهّر الأرسطى» والشعور ببعض الراحة الزائفة، فيصدق الناسُ أن أولادهم يتعلمون، ويصدق التلاميذُ أنهم يتعلمون، وتصدق الدولةُ أنها توظّف خريجين متعلمين، بينما كل ما سبق حفنةٌ من الأوهام المبكية، لا سيما حين تحدث فى بلد علّمت العالم فنونَ الكتابة والتدوين منذ فجر التاريخ الأول؟!
بعد تخرجى فى الجامعة قررت أن «أغيّر العالم»، شأن ما يفعل الشبابُ فى فورة حماسته وتصديه لمشكلات مجتمعه. اشتريت سبورة وبعض الطباشير الملون ومائة كشكول وكراسة وأقلام رصاص ومجلدات لوحات عالمية وغيرها، ثم جمعت أولاد البوابين وغيرهم ممن أشفقتُ عليهم من التعليم الحكومى الفاشل وقررت أن أصنع منهم فلاسفة وعلماء صغاراً بعدما أعلمهم مبادئ المنطق والرياضيات والفلسفة والعلوم والآداب والفنون البصرية وغيرها مما تخفق مدارسُنا فى تعليمه. منهجى كان: «ما لن يجدوه فى مناهج التعليم النظامى». قررتُ بدايةً اختبار مستواهم اللغوى، قبل الشروع فى تعليمهم قصائد الشعر الأشهر والمعلقات وفنون الآداب الرفيعة. أخبرتهم أن يخرجوا كراساتهم لُأملى عليهم قطعة من الأدب العربىّ، حتى أحدد مواطن الموهبة اللغوية لديهم ومكامن قصورها لأنطلق من ترميمها قبل تشييد الطوابق العليا. فسألنى أحدهم ببراءة: «إملاء منظورة يا ميس؟»، ولم أفهم ما هى «الإملاء المنظورة»! فسألته؛ وأجاب بآخر ما يمكن لإنسان أن يسمعه! الإملاء المنظورة هى أن أكتب القطعة الإملائية على السبورة، ثم يقوم التلاميذ «بنقلها»، أو بالأحرى «رسم» الأشكال (الحروف) كما هى أمامهم، دون أية مقدرة على قراءتها أو معرفة ماذا تعنى الكلمات المكتوبة. وكيف يتم تقييم الطلاب بعد الإملاء المنظورة؟! هل هناك احتمالٌ أن يفشل أىُّ طالب فى «نقل» الحروف كما يراها؟ الإجابة المُرّة: نعم، يخفقون أيضاً!
نقلا عن الوطن
المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع
جميع الحقوق محفوظة للأقباط متحدون
© 2004 - 2011
www.copts-united.com