يجب علينا قبل الحديث عن الحكمة من مشروعية عبادة من العبادات أن نعترف بأن أحدا من الناس لا يستطيع أن يدرك تمام الإدراك حكمة البارى سبحانه وتعالى من تشريعه لأمر ما، وإنما هى محاولات لإدراك الحقائق التى من أجلها شرعت هذه العبادة أو تلك، فالكل يبحث ويدور حولها، ويُعمِل فكره من أجل الوصول إليها وكلُّ واحد ينال جزءا من معرفة هذه الحكم، ولا يستقل أحدٌ بمعرفتها كلِها إلا أن يشاء الله له ويأذن له بذلك.
من الممكن القول بأن من حكمة تشريع الصيام ما يلى:
أولا: لا ريب أن من أجلّ الحكم التى من أجلها شرع الله الصوم تحقيق تقوى الله تبارك وتعالى، وهى التى نص عليها ربنا سبحانه وتعالى فى قوله فى آيات الصيام:
«يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ»
[البقرة: 183]، والتقوى هى وصية الله لعباده الأولين والآخرين.
فمن حقق التقوى التى هى المراقبة والخشية، نال رضوان الله تبارك وتعالى، ونال الأمن من عذابه وسخطه، والصوم يحقق هذه الغاية العظمى؛ لأنه يجعل العبد على الدوام مراقبا لربه، يخشاه ويخافه، يعلم أنه يراه، ويعلم سره وعلانيته، فلا يقدم العبد على أن يفطر على ما هو حلال بل يدعه رهبة من ربه سبحانه وتعالى، ومن هذا حاله أولى به أن يستمر على المراقبة على الدوام فلا يقدم على مخالفة أبدا لأمر من أوامر ربه ومولاه.
ثانيا: الصوم يعوّد العبد على أن يمسك بلجام نفسه فلا يتركها تنطلق به أينما شاءت، بل هو المتحكم فيها يصرفها وفق ما يريد، وهذا يعينه على اجتناب المعاصى، والإكثار من الطاعات.
ثالثا: يتذكر العبدبالصيام أحوال غيره من الفقراء والمساكين الذين ربما لا يجد الكثير منهم اللقمة التى تسد رمقه، وتشد أوده، فيستشعر أولا نعمة الله عليه، أن أعطاه ومنحه وتكرم عليه بما يغنيه وبما يقضى به حوائجه وييسر له أمر دنياه، وثانيا يدفعه هذا الشعور إلى الإنفاق فى سبيل الله تعالى، فيتفقد أحوال إخوانه المحتاجين ويقضى حوائجهم ليكون ممن يقضى الله حوائجهم، وينفِّس عنهم كرباتهم، كما أخبر النبى ﷺ عنهم فى حديثه: «من نفس عن مؤمن كُربة من كرب الدنيا نفس الله عنه كربة مِن كرب يوم القيامة، ومن يسر على معسرٍ يسر الله عليه فى الدنيا والآخرة، ومن ستر مسلما ستره الله فى الدنيا والآخرة واللهُ فى عون العبدِ ما كان العبدُ فى عون أخيه» رواه مسلم.
رابعا: كما يُذكِّر الصيامُ الغنى بحال من هو دونه ممن ضيّق عليه فى الرزق، فهو كذلك يذكر الفقير بمشاركة الغنى له فى الامتناع عن الطعام والشراب لفترة من الزمن، وهذه المشاركة تُدخل على قلب الفقير العزاء عما يُعانيه من الفقر والاحتياج، بل هى تخفف عنه وتسليه، وهذا يزيل الحقد والحسد والكراهية من قلوب الفقراء على الأغنياء، فيتآلف الناس فى مجتمع لا تظهر فيه الفوارق المادية ولا تطغى سطوة الأغنياء فيه على الفقراء.
خامسا: يتعلم الصائمُ من صومهِ الصبر والجلد، والثبات والتحمل، فهو لا يجزع لما يصابُ به، ولا يحزنُ على ما فقده أو فاته، وقد بيّن النبى ﷺ أن الصوم نصف الصبر فقال ﷺ: «والصوم نصف الصبر»، رواه الترمذى.
وإنما كان الصوم نصف الصبر؛ لأنه صبر على طاعة الله تبارك وتعالى، وبقى للعبد أن يصبر عن المعاصى ليفوز بثواب الصابرين كله.
سادسا: عند خلو المعدة من الطعام تنفذ البصيرة، وينجلى الذهن، وتتقد الأفكار، فيجيد العبد حينها التفكر فيما يحيط به، وتتفتح له آفاق واسعة فتتكشف له أمورٌ لو حاول الوصول إليها مع امتلاء معدته ما استطاع إليها سبيلا؛ ولذا قيل: إذا امتلأت المعدة نامت الفكرة، ولا شك أن الصوم هو الطريق الأمثل للوصول إلى هذه الدرجة العالية من صفاء الذهن.
نقلا عن الشرق
المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع
جميع الحقوق محفوظة للأقباط متحدون
© 2004 - 2011
www.copts-united.com