لسنا وحدنا فى مصر الذين نعيش مرحلة ما بعد زلزال سياسى واجتماعى وأمنى هائل، وباختصار كابوس رهيب من الأحداث المتلاحقة التى ترج الدولة رجا، وتهزها من الأعماق بدنا وروحا وعقلا. فقد عاشت شعوبا كثيرة قبلنا نفس اللحظة بل أشد قسوة، وما عليك إلا أن تتخيل الحالة اليابانية بعد القنبلة النووية الثانية على ناجازاكى. كانت اليابان تعتقد أن الولايات المتحدة ليس لديها إلا قنبلة واحدة نووية ألقتها على هيروشيما، ومن ثم فإنها استمرت،فى القتال حتى بعد الدمار غير المسبوق الذى جرى للمدينة، ولكن القنبلة الثانية فتحت الباب أنها لن تكون الأخيرة.
استسلمت اليابان ولكن مع لحظة الاستسلام كانت لحظة البداية لبناء اليابان من جديد، فكانت السنوات الخمسة الأولى لإزالة ركام الحرب، وكانت السنوات الخمسة التالية لتحقيق الانتعاش الاقتصادى الذى استفادت فيه اليابان من الحرب الكورية، ومع السنوات الخمس الثالثة ومطلع الستينيات من القرن الماضى بدأ الحديث عن المعجزة الاقتصادية اليابانية. ولم تكن المعجزة اقتصادية فقط، بل باتت سياسية أيضا، أصبحت اليابان بلدا ديمقراطيا.
القصة ذاتها جرت فى ألمانيا، ولكن دون القنبلة الذرية، ومع ذلك كان العقاب هو التقسيم، وحكمت عاصمتها برلين من القوى الأربعة المنتصرة فى الحرب وهى محاطة من جميع أركانها بقوات الجيش الأحمر السوفيتى. وسواء ضربت بالسلاح النووى أو لا، فإن ألمانيا كان قد تمت تسويتها بالأرض حيث كان فى أمريكا من يرى أنه من الواجب الاستراتيجى الغربى أن تعود ألمانيا إلى العصر الحجرى. لم تعد ألمانيا إلى العصر الحجرى، وإنما استعادت وحدتها، وأصبحت واحدة من أهم القوى الصناعية فى العالم، وقائدة الاتحاد الأوروبى ومنقذته، باختصار حققت ألمانيا كل أهدافها فى الحرب العالمية الثانية دون إطلاق رصاصة واحدة. هناك كان إزالة ركام الحرب وعودة البنية الأساسية للعمل فى السنوات الخمسة الأولى حتى أعيد إعلان الدولة فى عام ١٩٤٩، وفى ١٩٥٥ كان الانتعاش الاقتصادى قد تم، وأصبحت ألمانيا عضوا فى حلف الأطلنطى. خمس سنوات أخرى ثالثة وصارت فى مقدمة دول العالم.
إذا ساد ظن لدينا أن اليابان وألمانيا كانتا من الدول الصناعية فى الأساس، وكان التعليم فيها سائدا، وفيها طبقة وسطى وثابة، وجماعة رأسمالية جاهزة بالتنظيم والرغبة فى العمل والاستثمار، فإن كوريا الجنوبية لم يكن فيها أى من ذلك.
ولا كذلك كان الحال فى الصين قبل عام ١٩٧٨ وانعقاد الحزب الشيوعى الصينى الذى أقر مبدأ اقتصاد السوق. فى البلدين كانت الحرب، والتقسيم قد هزهما إلى الأعماق، ولكن الزمن لم يزد على عقد ونصف حتى جرت الانطلاقة الكبرى. الأمثلة قبل ذلك، وبعد ذلك كثيرة: قبل ذلك كانت الحرب الأهلية الأمريكية، وما تلاها من عملية توحيد بلد ممزق، كما كانت الحرب العالمية الأولى التى دمرت فيها أوروبا كلها، ولكنها عادت إلى الانتعاش من جديد لكى تنهار مرة أخرى مع الأزمة العالمية الكبرى فى ١٩٢٩، ولكنها استعادت كل ذلك قبل الحرب العالمية الثانية. وبعد ذلك ما عليك إلا أن تنظر فى تجارب فيتنام وتايوان وسنغافورة وإندونيسيا والهند والبرازيل، وسوف تجد القصة متكررة فى ٨٤ دولة فى العالم من بدايتها التعيسة، إلى نهايتها السعيدة، وما بين التعاسة والسعادة يوجد كم هائل من العمل الشاق، فى البداية لإزالة الركام، ثم تحقيق الانتعاش واستنهاض كل عناصر الثروة، وفى النهاية تكون الانطلاقة إلى عالم جديد من التقدم والازدهار والمكانة.
ما جرى لدينا خلال السنوات الخمسة الماضية، وحتى قبلها فى العقود الستة السابقة، انتهى بنا إلى أوضاع غير سعيدة كما يظهر من تواضع معدلات النمو، والحالة الأمنية غير المستقرة، والفشل المدنى المتواصل، وخلال الشهور الأخيرة تزايد العجز فى الميزان التجارى، وهكذا مؤشرات تدلنا على بعض التقدم ولكن الأحوال فى عمومها تظل على ما هى عليه. وباختصار ظهرت فجوة كبيرة بين التوقعات التى أعقبت ثورة يونيو، والتوقعات الأخرى بعد انتخاب الرئيس السيسى، والتوقعات الثالثة بعد ما عرف بالمؤتمر الاقتصادى خاصة مع مشروعات المليون وحدة سكنية وبناء العاصمة الجديدة. ولكن وللحق فإنه رغم الحروب التى خاضتها مصر وآخرها الحرب ضد الإرهاب، ورغم ثورتين كاسحتين، فإن الدولة المصرية بقيت، ومؤسساتها الرئيسية، وبخاصة القوات المسلحة استمرت، ورغم كل الملاحظات والتحفظات فإن مؤسستها القضائية دامت، أما بيروقراطيتها العتيدة فقد بقيت طوال الوقت. وفى أكثر اللحظات سوءا من انهيار أمنى، أو ضعف اقتصادى، أو فوضى ذائعة، فإن أجهزة البنوك والبريد والمدارس، وكثيرا من المنشآت الإنتاجية فى مزارع ومصانع ومتاجر- ظلت على حالها. ببساطة لم تحدث لنا تلك الحالة من الدمار والشلل الشامل والكامل التى جرت فى الأمثلة التى ذكرتها، أو فى أمثلة جديدة يمكن أن نشاهدها بالعين المجردة فى دول الجوار.
كل ذلك نعمة تجعل نقطة بدايتنا أفضل بكثير من بدايات دول أخرى، وتجعل عملية النهوض ممكنة، وإزالة الركام ليس صعبا، والانتعاش الاقتصادى ممكنا، وحتى التقدم ليس مستحيلا. ما يمنع ذلك، وبصراحة، إننا لا نأخذ مصر، ولا العالم، ولا الظروف التى نعيش فيها، بالجدية التى تستحقها. لقد جرى التسليم بالشلل الرمضانى منذ شهر إبريل، وما إن جاء مايو حتى اجتمع الشهر الكريم مع امتحانات الثانوية العامة حتى ظروف الحر المتوقع مع الصيف، لكى يعطى البلاد رخصة للكسل العام. صارت الجملة الذائعة: بعد العيد وعليك خير! مع تصور داخلى لا يقول به أحد إنه بعد العيد سوف تكون إجازة الصيف، ولذا يحتمل أن تبدأ البلاد فى العمل مع شهر سبتمبر. أعرف وأشعر بالظروف التى جعلت كثيرا من الأمنيات والأفكار التى طرحها الرئيس السيسى لا تدخل مراحل التنفيذ، ولكن هناك واحدة منها كنت أراها مفتاحا لكى نبدأ النهوض وهى أنه لن يجعل المصريين ينامون.
من الناحية العملية كان ذلك يعنى أن تعمل الدولة كلها ثلاث ورديات عمل، وألا يقف شهر رمضان أو العيد أو امتحانات الثانوية العامة أو حر الصيف عائقا أمام إنجاز مهام المرحلة الأولى فى النهضة وهى إزالة ركام ما مضى خلال السنوات الخمسة الماضية. هذا الركام يتمثل فى أولا عودة جميع المصانع المتوقفة عن العمل مرة أخرى إلى الدوران، وثانيا أن تجرى عملية تنظيف سريعة للقوانين المعوقة للاستثمار، وثالثا ألا يحدث تراجع فى أى من مؤشرات التغيير إلى الأمام فى مصر، فلا تتراجع الصادرات، ولا يزيد العجز فى الميزان التجارى، ورابعا أن تتقلص أو تتوقف عمليات النصب البيروقراطى الذى يعطينا قصة عن مشروع ما يجرى التهليل له، ثم نكتشف فى النهاية أن تحت القبة لم يكن شيخا، بل محترفا للضلال. ببساطة نحتاج فى مرحلة إزالة الركام إلى مصداقية مستمرة لم تكن بعيدة عنا عندما بدأ الحديث، ثم العمل فى مشروع قناة السويس، فساعتها تعلمنا أن نفرح ونشارك، ونرى تجسيدا لما نقول على أرض الواقع، وعرفنا أن المصريين لديهم من الإمكانيات والقدرات المادية والمالية التى تغنينا عن سؤال الغير. وبصراحة شديدة: هل نريد فعلا أن تكون مصر أم الدنيا «قد الدنيا»ن أم أن الأقدار تسير فيما سارت عليه منذ زمن طويل؟!
نقلا عن المصرى اليوم
جميع الحقوق محفوظة للأقباط متحدون © 2004 - 2011 www.copts-united.com