بقلم: لطيف شاكر
"وكان شرارة منيرة ألقيت فى أعماق نفوسنا الداخلية، فأشعلت الحب فينا، وصار لهيبًا، بذلك صرنا نحب الكلمة القدوس الذى أحب العلوم إلى نفوسنا ويجتذبنا إلى جماله غير المنطوق به بغير مقارنة." (أغريغوريوس أسقف نيصص عن أوريجانوس).
غادر العلامة "أوريجانوس" الإسكندرية" هذه المرة بلا عودة ولا رجوع إليها، رغم حبه الجارف لوطنه الذى شرب من نيله؛ ليعود إليه ثانيةً لكن دون جدوى. علمًا بأن "مصر" بالنسبة له- كتعبير قداسة البابا "شنودة" الثالث"- وطن يعيش فى "أوريجانوس"؛ حيث أستشهد فيه والده، وتعيش فيه أسرته، وأسس فيه صرح مدرسة "الأسكندرية" الشامخ، وتمتع ببركات كنيسة "مار مرقس". لكن ما باليد حيلة، فقد تقسى قلب الجميع عليه، وأصبح غير مرغوب فى وجوده، ولكن الله لا ينسى تعب المحبة، فرحَّب به أساقفة "فلسطين" و"أورشليم"، واستقبلوه استقبال الأبطال، الأمر الذي أدى إلى إِشعال نيران غضب "ديمتريوس" فأرسل خطابًا إلى الأساقفة يعاتبهم ويوبخهم لقبولهم "أوريجانوس" الذى أعتبره مارقًا وغير صالح للتعليم.
وكم يدهش الإنسان هذه القسوة التى ملأت قلب "ديمتريوس" من جهة "أوريجانوس" المُعتبر كإبن له، ومسئول عن خلاصه، حتى إذا أخطأ أو ضعف.. يقول بولس الرسول: "من يضعف وأنا لا أضعف، ومن يعثر وأنا لا ألتهب" (2كو 11:29). لكن يبدو أنه أراده طريدًا شاردًا بلا مأوى يستريح فيه أو ملجأ يلوذ به، غير مكتف بحرمه وطرده من المدرسة والإشهار بسره.
تأسيس مدرسة ومكتبة بـ"قيصرية فلسطين"
بحكمة بالغة أتاح "ديونيسيوس"- أسقف "فلسطين" لـ"أوريجانوس" الفرصة، فاتحًا ذراعيه له ليعظ الشعب بتعاليمه وإرشاده. بل استطاع الأسقف الإستفادة بعلم ونبوغ "أوريجانوس" في تأسيس مدرسة لاهوتية بـ"فلسطين" على غرار مدرسة "الإسكندرية"، وبسرعة البرق أمكن لـ"أوريجانوس" أن يعلو من شأن المدرسة الجديدة، حتى أصبحت فى أول الأمر منافسة لمدرسة الأسكندرية، ثم سحبت الشهره منها، وأمست الشعلة المتوهجه فى عالم اللاهوت والعلوم، حتى وفد إليها من كل فج عميق، بما فيها طلبة مدرسة "الإسكندرية" أيضًا. وذلك بفضل نبوغ وتفوق العلامة "أوريجانوس".
وحازت المدرسة على شهرة فائقة وسمعة رائعة، وأضحت الأسبق على مدرسة "الإسكندرية"، وعُرفت "قيصرية فلسطين" بمدرستها المنيرة ومكتبتها المضيئه ذائعة الصيت، وتتلمذ فيها كبار اللاهوتيين الذين أصبحوا أساقفة وعلماء مثل "يوسابيوس القيصرى"، و"أغريغوريوس العجايبى" وأخيه، و"مرسيليانوس"، و"سوريانوس" الأسقف، وآخرين من الآباء الأفذاذ الذين اعتلوا مناصب مرموقة فى كنيسة "أنطاكية". وقد رأس "أوريجانوس" مدرسة "قيصرية فلسطين" لمدة عشرين سنة؛ تأكيدًا للعلاقة الطيبة التى تربطه بالأساقفة وشعب "فلسطين وأورشليم"، وكان له الفضل فى تأسيس مكتبة مدرسة "قيصرية" الشهيرة. وقد استفاد بالفرصة التى أتيحت له فى تكملة مؤلفاته وكتابة مخطوطاته التى بلغت عددًا يفوق خيال الباحث أو القارئ، وقد ساعده فى هذا "أمبروزيوس" وعائلته الذين لحقوا بـ"أوريجانوس"، ومعهم النُساخ والكُتاب؛ ليستكملوا ما بدأه من مؤلفات.
وقد كتب مرة ما يجول فى نفسه عن الأحداث التى حدثت له حتى استيطانه بـ"فلسطين" قائلاً: "وحدث بعد هذه الأمور، أن الله أخرجنى من أرض "مصر" بيت العبودية كما خلّص شعبه قديمًا، ثم قام عدوي، وأقام فى وجهي حربًا قاسية بواسطة مكاتيبه التافهة التى تغاير مبادئ الإنجيل، وحرك ضدى ريحًا صرصرًا؛ فرأيت من الصواب أن أقاوم جهد استطاعتى مدافعًا عن المبدأ المهم الذى أختطيته لنفسى وسرت عليه، وهو الإفادة والإستفادة. وكنت أخشى أن أتأخر عن إتمام شرح الكتاب المقدس الذى بدأت به قبل أن ينطمس ذهنى. وقدّر الله أن تخيب السهام النارية التى كانت تصيبنى بسبب التبشير بكلمة الإنجيل، وأضطررت بطيب خاطر تحمل جميع المصائب، وعقدت العزم على عدم تأجيل نسخ وتملية المؤلفات المطلوب إتمامها."
التفسير الرمزى للكتاب المقدس
عنى "أوريجانوس" بتفسير الكتاب المقدس تفسيرًا رمزيًا لدرجة أنه بالغ فيه معتبرًا أن التفسير الرمزى يتقدم عن التفسير الحرفى، فعلى سبيل المثال لا يمكن فهم رؤيا يوحنا، ونشيد الأناشيد إلا من خلال التفسير الرمزى، كما أن كثير من آيات الكتاب المقدس لا تُفهم إلا من خلال الرمز، مثل اسجدوا عند موطئ قدميه (مز5:89)، "أضئ بوجهك على عبدك" (مز135:114)، "عيناى على أمناء الأرض" (مز 101: 6، 7) ، وكذا الأمثال التى قالها السيد المسيح أو الأرقام المذكورة فى الكتاب المقدس، وكثير من الآيات التى تعتبر غامضة فى أذهاننا إذا فُسرت حرفيًا، وليست رمزياً أو مجازيًا.
وقد اعتنق هذا المنهج فيما بعد القديس "ديديموس" والقديس "أوغسطينوس"، وكثير من الآباء والمفسرين. لكن لم يصادف هذا التفسير الرمزى والمجازى فكر كثير من الرهبان البسطاء الذين رفضوا هذا التفسير، والتزموا بالتفسير الحرفى، فتصوروا أن الإله له وجه وعينان وأيدى وأعضاء جسدية، وحرموا التفسير الرمزى، ولم يقبل أيضًا بعض الآباء هذا الفكر، واعتبروا هذا التفسير ضلالة وفلسفة زائفة، بالرغم من أن التفسير الرمزى أو المجازى، والذى كان معروفًا لدى الفلاسفة، استخدمه الآباء فيما بعد للرد على الهجمات الوثنية والهرطقية، والدفاع عن الإيمان المسيحى القويم.
أنّاته وأنينه
فى كثير من الأحيان، كان يتذكر بأسى ما حدث له من أحكام. فكان يفصح عن آلامه بكلمات وُجدت بخط يده، مُعبرًا عما يجول في نفسه. فكتب عن نكبته قائلاً: "أيها البرج العالى، كيف سقطت إلى الحضيض، وأنت أيها الشجرة المثمرة كيف يبست؟ أيها النور المتقد كيف إنطفأت؟ أيها الينبوع الجاري كيف نضبت؟ ويلي، فإني كنت مشتملاً على مواهب ونعم كثيرة، قد عُريت منها جميعًا، فأرفقوا لحالي يا أحبائي، فإني قد اتحدت مع الشيطان. أغثني أيها الروح القدس، وهب لى من لدنك نعمة لأتوب، يارب أظهر رحمتك لخروفك التائه الذليل من الذئب المفترس، ونجني من فمه، واقبلني أيضًا في فرح إلهي، واجعلني أهلاً لملكوتك بصلاة الكنيسه عنى."
داحض الهرطقات يتهمونه بالهرطقة!!
أجمع الجميع على أن أخطاء "أوريجانوس" العظيم، ناجمة عن عبقريته الفذة، والتي جعلت انتاجه الخصب أبعد عن مناله، فلم يكن لديه الوقت ليراجع أعماله وأكثر مؤلفاته، وربما كلها لم يخطها بيده، ولكن بواسطة النسّاخ الكُثر، والذين ينقسمون إلى فئتين:
الأولى- تكتب إختزالاً بما يمليه عليهم الأستاذ العظيم، وعددهم سبعة يُلقى عليهم متعاقبين لا يلقنهم معًا.
والفئه الأخرى- تقوم بالنسخ بخط واضح من الإختزال، وغالبًا دون مراجعته لكثرتها، حتى قال عنه القديس "أبيفانيوس"- أسقف قبرص: إن أى قارئ، مهما كان واسع الإطلاع، لا يسعه الإلمام بكل مؤلفات "أوريجانوس"؛ لأن له حوالي ستة آلاف مخطوطة أو لفافة (كانت اللفافة طولها مترين من البردي).
ولهذا السبب يعزى الكثير للإخطاء التى وردت بمؤلفاته العديدة، قد تكون نتيجة للكتابة السريعة (الإختزال)، وما يمليه من أفكار سريعة ومختلفة للمختزلين في نفس الوقت. أو تكون عند نقلها في صحائف بخط واضح. أو ربما عند ترجمتها من اليونانية - لغته الأصلية - إلى اللاتينيه لغة الشعوب. وأيضًا لا ننسى أبدًا إقحام بعض الهراطقة بتعاليمهم في مؤلفات "أوريجانوس"..كما حدث مع "اكلمنضس"، ودس سمومهم لإقناع الآخرين بأفكارهم، ونسبها للآباء الكرام، وهذه كانت ظاهرة معروفة.
وقد أيّد هذا العلامة "أوريجانوس" لأسقف "روما"، وإلى زملائه وتلاميذه بـ"الأسكندرية"، شاكيًا لهم ما دسه الأعداء لكتبه مما أدى إلى تغيير المعنى ويقول: "إن من دواعي سرور أعدائي أن ينسبوا لي آراء لم أكن أتصورها ولا خطرت ببالي."
احتماله للإضطهادات وانتقاله
فى إبِّان الإضطهاد الذى قام به "مكسيموس قيصر" سنة 236م، سُجن "أمبروزيوس" صديق "أوريجانوس" الحميم، مع بعض الكهنة، وعوملوا بمزيد من القسوة. وأرسل لهم رسائل تعزية وتشجيعية، وأكره على مغادرة "فلسطين" قاصدًا "كبادوكية". وهناك رحّب به "فرمينتانوس" أسقفه، ا وكان صديقًا له ومن المعجبين به..ولما اشتد الإضطهاد، خبَّأته فى بيتها سيدة محبة فاضلة تُدعى "يوليانة" لمدة عامين، وسمحت له باستعمال مكتبة ابتاعتها من "سيماخوس" أحد علماء الأبيونيين، وكان قد ترجم العهد القديم إلى اليونانية، فإنكب "أوريجانوس" على هذه الترجمة، وقام بمقارنتها بالنسخه العبرانية، وتهيأ بذلك لعمله العظيم بتأليف كتاب "السداسيات"؛ حيث وضع آيات الكتاب المقدس فى ستة حقول بلغات مختلفة، ليظهره للعالم منشورًا وبستة لغات ولهجات مختلفة.
ويقول "ساويرس بن المقفع" فى مخطوطه الجزء الأول من تاريخ البطاركة: إنه خلال الإضطهاد الذى شنه "ديسيوس قيصر" عام 245م نظروا إلى "أوريجانوس" كأكبر مُدافع عن الديانة المسيحية، فقُبض عليه وطُُرح فى السجن، وعُذب عذابًا شديدًا، وكتب أثناء سجنه رسالة تتضمن النصيحة تشجيعًا لمشاركيه فى العذاب والآلام. وقد كتب "يوسابيوس القيصرى" عما عناه أوريجانوس من عذاب وآلام، فيقول: "يصعب على الكاتب الماهر وصف ما قاساه "أوريجانوس"، وإحتماله بصبر وفرح من العذاب الشديد والآلام القاسية أثناء هذا الإضطهاد. إذ وضعوه فى قنطرة من حديد، وزجوه فى أعماق السجن المظلم؛ حيث ظل بضعة أيام مطروحًا على خشبه وهو مشدود بأربعة أوتاد لا يستطيع معها الحراك، وهم يشعلون النار من حوله تخويفًا له"
وغير ذلك من مرائر، شرحها يطول، ووصفها يهول، ذاقها هذا الإنسان العظيم من أعدائه الوثنيين. ولكنه لم يبد ضجرًا، ولا أظهر مللاً, وعندما انتهوا من تجريعه كل أصناف العذاب، قدَّموه للحكم عليه بالموت، وكعادة قضاة الظلم الموجودين فى كل عهد، والكارهين للحق، سعى القاضى إلى تأخير الحكم حتى يطيل عليه العذاب، الأمر الذى أدى إلى إصابته بالكساح ولم يُفرج عنه إلا بعد موت القيصر، وظل يعانى من آلام وأوجاع شديدة أدت إلى موته خلال فترة وجيزه عن سن 69 عامًا.
وخلال أوجاعه المبرحة، تسلَّم سالة تعزية ومشاركة فى آلامه من البطريرك الإسكندرى "ديونسيوس" الـ14، الذى خلف "هيراكلس"(ياروكلاس)، وهو أيضًا تلميذ لـ"أوريجانوس"، وكانت الرسالة سبب إنتعاش وفرح له. وقد تنيَّح هذا البار سنة 254م بمدينة "صور"، وظل قبره معروفًا حتى شُيدت فوقه كنيسة، وحُفظ ضريحه لقرون عديدة بقرب مذبح الكنيسة.
يقول المؤرخ "ساويرس": "رجل مسيحى فاضل كهذا، كيف يتهمونه بالهرطقة، وقد كانت حياته كلها بريئة من كل ما يشين؟ وأجمع الكل على طهارة ثيابه ونزاهة نفسه".
ويقول "يوسابيوس المؤرخ": "إن حياة هذا الرجل أفضل مُفسر لعظاته".
ويقول الدكتور "رأفت عبد الحميد" في كتابه الفكر المصري في العصر المسيحي: ومن رسالة بعث بها "جيروم" إلي أحد أصدقائه، نقف علي مدي التقدير الذي كان يحمله "جيروم" لـ"أورجين"، والمكانة التي كان يضعه فيها قبل ان ينقلب عليه" "إنه لأمر جلل ما تطلبه صديقي العزيز، وهو أن أنقل "أوريجين" إلي اللاتينية، وأن أتلو علي مسامع الرومان لرجل لا نستطيع إلا أن نردد ما قاله عنه "ديديموس الضرير" (البصير) من إنه وحده المعلم الثاني للكنيسة بعد الرسل.
المراجع:
1- "تاريخ مصر" لساويرس بن المقفع الجزء الأول، تحقيق جمال الدين عبد العزيز.
2 – "تاريخ الكنيسة" ليوسابيوس القيصري، تعريب القمص مرقس داود.
3- "تاريخ الكنيسة المصرية" للكاتبة الإنجليزية لويزا بوتشر الجزء الأول.
4- "تاريخ الكنيسة القبطية الأرثوذكسية" (كنيسة تقليدية) للكاتب ثيئودور هول باتريك.
5- "تاريخ الكنيسة القبطية" تأليف الشماس منسى يوحنا (المتنيح منسى يوحنا)
6- "حضارة مصر في العصر القبطي "– دكتور مراد كامل.
7- "تاريخ المسيحية الشرقية" – د. عزيز سوريال عطية، ترجمة د. اسحق عبيد.
8- "موسوعة من تراث القبط" المجلد الأول، د. سمير فوزي جرجس.
9- إصدارات كنيسة مارجرجس سبورتنج – القمص تادرس يعقوب ملطي.
10- "العالمة أوريجانوس" – آباء الإسكندرية الأب بسام اشجى.
11- "موسوعة الدراسات الفلسفية" الأنبا اغريغريوس اسقف البحث العلمي.
12- أدامسوس الالماس الكاتبة سلوى بكر.
13- "حسن السلوك في تاريخ البطاركة والملوك" العلامة الأسقف ايسذورس.
14- "موسوعة تاريخ أقباط مصر" – عزت اندراوس.
15- الفكر المصري في العصر المسيحي.
16- كتاب مدرسة الإسكندرية والحضارة المصرية القديمة لكاتب السطور تحت الطبع.
وإلي مقال آخر للعلامة أوريجانوس..
جميع الحقوق محفوظة للأقباط متحدون © 2004 - 2011 www.copts-united.com