«سلام ومحبة».. هكذا كان يأتى صوت الراهب أغاثون عبر «الأنسرماشين» قبل أن يطلب ترك رسالة عقب صوت الصفارة، سنوات اعتدت على سماع هذه العبارة كلما طلبته، بعدها بدقائق يكلمنى. كنا نتبادل التهنئة فى الأعياد والمناسبات، حتى أبعدتنا مشاغل الحياة، لكنه ظل دائما بالنسبة لى الراهب الطيب الذى شهد وقائع كاشفة ودالة على طريقة التعامل بين الدولة والكنيسة فى الأزمات، وبين رجال الكنيسة أنفسهم.
حكى لى ما حدث بين الرئيس الأسبق حسنى مبارك عندما كان نائبًا لرئيس الجمهورية، والبابا شنودة. كان البابا غاضبًا من تكرار اعتداء المتطرفين على الكنائس والأقباط وخطف الفتيات المسيحيات وأسلمتهن بالقوة، وقرر الاعتكاف فى الدير، وعدم الاحتفال بعيد القيامة احتجاجًا على عدم مواجهة أجهزة الدولة هذه الجرائم، وكان السادات يتأهب لزيارة أمريكا، وقتها اتصل مبارك بالكاتدرائية، فرد عليه أغاثون، الذى كان حينئذ سكرتيرا للبابا، وحمّله مبارك رسالة إلى البابا بأن ينهى اعتكافه، ويحتفل بالعيد، وأن المشاكل ستحل بعد عودة السادات من أمريكا، ذهب أغاثون بالرسالة إلى الدير، لكن البابا عنّفه على تطوعه بحمل الرسالة، وأبعده عن السكرتارية، وألحقه بكنيسة أبو سيفين.
ما لم يقله أغاثون أن تصرف البابا وعدم اهتمامه بشخص نائب الرئيس أغضب مبارك، ومن المحتمل أنه كان أحد الأسباب، التى أدت إلى تأجيل قرار إعادة البابا إلى منصبه ثلاث سنوات وأربعة أشهر «40 شهرًا»، رغم إفراج مبارك عقب توليه رئاسة الجمهورية عن كل المعتقلين السياسيين الذين سجنهم السادات فى خريف الغضب.
تتواصل حكايات الراهب أغاثون، وروى لى: أنه كان راهبا بدير أبو مقار تحت رعاية الأب متى المسكين، وكان متألما للقطيعة بين البابا والأب متى، فطلب من الأخير أن يسمح له بالذهاب إلى البابا للتوسط للصلح بينهما، واشترط عليه الأب متى أن لا يعود إلى الدير إذا فشل فى مهمته، وبالفعل لم يعد، وأصبح راهبا فى دير الأنبا بيشوى، واختاره البابا ضمن سكرتاريته حتى أبعده إلى كنيسة أبو سيفين كما ذكرنا.
الأب أغاثون كانت له وقائع أخرى مع البابا عرفتها عندما التقيته للمرة الأولى فى مستشفى السلام، حيث كان يعالج من وعكة صحية ألمت به عقب خلافه الشديد مع البابا شنودة، ومن على سرير المرض قال لى: إنه التحق بكنيسة أبو سيفين الأثرية، وكانت تحتاج إلى ترميم، وحاول كثيرًا دون جدوى حتى جاء يوم وزار ثروت عكاشة وزير الثقافة فى عصر عبد الناصر الكنيسة، ورأى الأيقونات التاريخية بها، فاتصل بفاروق حسنى وزير الثقافة وقتها يلومه لعدم اهتمامه بهذه الكنيسة، فما كان من حسنى إلا أن طلب زيارتها، وأرسل أغاثون إلى البابا، موضحا الموقف، ومتمنيا أن يكون فى استقبال الوزير، إلا أن البابا رفض الحضور، وبعد الزيارة اهتمت الوزارة بترميم الكنيسة، وتبرعت منظمة «اليونيسكو» بمليونى دولار، ورسا الترميم على شركة «أوراسكوم» بناء على تعليمات من وزارة الثقافة، لكن البابا غضب، وأراد أن يتم الترميم من خلال شركة أخرى، وظن أن أغاثون هو الذى دفع وزارة الثقافة للتعاقد مع «أوراسكوم» فأمر بإبعاده عن الكنيسة، لكن شعب الكنيسة وأهالى المنطقة، مسيحيين ومسلمين، تمسكوا به حيث كانت تربطهم به علاقة إنسانية رائعة، وأوعز البعض للبابا بالذهاب إلى الكنيسة خلال الاحتفال بمولد القديس أبو سيفين، وأن الأقباط سينصاعون لأمره إذا رأوه وسطهم، ويتم إبعاد أغاثون بسهولة، لكن الشعب طالب البابا بالإبقاء على راعيهم، وانصرف البابا غاضبا من الباب الخلفى للكنيسة، بعدها أصدر أمره بعودة أغاثون إلى الدير، لكن الأخير رفض، وذهب إلى شقة العائلة خلف الميرلاند بمصر الجديدة، وأقام بها لسنوات يلتقى فيها بعدد محدود من أصدقائه ومريديه، وللأمانة فإن البابا لم يجرده من رتبته الكهنوتية، ولم يشلحه، إنما تركه يفعل ما يريد، وفى المقابل ظل أغاثون صامتا بعيدا عن الأضواء والإعلام.
رحل الراهب الطيب فى سلام ومحبة، وأغلب الظن أنه لم يكتب مذكراته، كما رحل قبله كثير من قيادات الكنيسة دون أن يدونوا ما شاهدوه، ولعلها فرصة أن تبادر الكنيسة ومراكز الدراسات والأبحاث لجمع شهادات من عاصروا الأحداث المهمة فى الكنيسة وتوثيقها قبل أن يرحلوا، فهذا جزء مهم من تاريخ الكنيسة والوطن.
نقلا عن التحرير
جميع الحقوق محفوظة للأقباط متحدون © 2004 - 2011 www.copts-united.com