أعلم أن الكتابة فى هذا الموضوع ربما يثير شجون بعض الناس. ولذلك أنصح من يعتقدون أنهم لن يتحملوا قراءة هذا المقال أن يمتنعوا، خاصةً إذا كانوا يعانون من ضغط الدم؛ لأن فى هذا المقال كلامًا قد يكون خطرًا على صحتهم.
وما دفعنى للكتابة فى هذا الموضوع، حوارًا شاهدته على إحدى القنوات الفضائية القبطية التى تُبث من "أمريكا". وبغض النظر عن موضوع الحوار، ولكن مقدمة البرنامج كانت تستضيف رجلاً قبطيًا وأحد الكهنة الأقباط من "مصر". وطلبت مقدمة البرنامج من الرجل أن يتحاور مع الأب الكاهن على الهواء. ولكن الرجل القبطى اعترض أن يكون الحوار من خلال قناة تُبث من "أمريكا"، وقال: إنه لا يمانع من الكلام مع الأب الكاهن، ولكن بعيدًا عن الفضائيات الأمريكية.
ولما طلبت مقدمة البرنامج توضيح هذا الموقف الغريب، استرسل الرجل القبطى، معددًا عيوب "أمريكا"، وأشار بالذات إلى ما سمعه عن اعتزام بعض الأمريكيين حرق القرآن فى مناسبة الذكرى السنوية لإعتداء ١١ سبتمبر.
وبدايةً أؤكد أنه مع إننى لا أؤمن بالإسلام كدين، أو بالقرآن ككتاب منزل؛ ولكنى أرفض بشدة أسلوب حرق القرآن، أو حرق أى كتاب؛ لأن هذا الأسلوب فى رأيى يعود بنا إلى عصور الجهل والقمع، وبدلاً من حرق الكتب، أنادى بحق الإنسان فى مناقشتها، وذلك بأسلوب موضوعى حضارى.
ولكن ما فات ذلك الرجل، أن الناس فى "أمريكا" أحرار فى أن يفعلوا ما يشاؤون، حتى وإن كان حرق العلم الأمريكى نفسه. وفاته أيضًا أن تصرفات بعض الناس، لا تعنى بالضرورة موافقة الحكومة الأمريكية أو الشعب الأمريكى كله، ولا تنعكس سلبًا عليهم. وربما سبب سوء الفهم ناتج عن أن الناس فى الدول العربية لا يجرؤوا على عمل شئ، إلا إذا كان متمشيًا مع سياسة الحكومة، وبالتالى تصبح الحكومة مسئولة ضمنا عن تصرفات الشعب.
كراهية "أمريكا" ليست شيئًا جديدًا على "مصر" والدول العربية والإسلامية. وأذكر أن هذه المشاعر كانت على أشدها فى أيام حكم الرئيس "عبد الناصر". وكنا كمواطنين مصريين فى ذلك الوقت، نخشى حتى مجرد الإقتراب من مبنى السفارة الأمريكية، لئلا نُتهم بالعمالة لصالح "أمريكا". وما زلت أذكر فى أواخر الخمسينات فى مدينة "الجيزة" حملة إنتخابية بين ضابط جيش سابق ورجل أعمال مسلم، وروّج أحدهم شائعة تقول: إن رجل الأعمال كان يستورد سلعًا من "أمريكا" للإتجار فيها، وهذا أدى إلى إتهامه بأنه أمريكانى، وهو من أبشع التهم التى يمكن أن توجَّه لمصرى فى تلك الأيام. ولا أنسى الهتافات التى كانت تدوِّى إلى عنان السماء من أنصار ضابط الجيش ضد رجل الأعمال التى تقول: مش أمريكانى ولا زى التانى.
وشخصيًا أتعجب من حجم كراهية العرب والمسلمين لـ"أمريكا"، فـ"أمريكا" لم تسئ إلى العرب والمسلمين فى تاريخها، لم تكن من الدول المستعمرة، ولم تستول يومًا على شبر من أراضيهم. بل على العكس كانت قوة أمان تحميهم ضد الطامعين الذين هم غالبًا من الدول الإسلامية الشقيقة.
ولا ننسى أن "أمريكا" قد وقفت ضد حاكم عربى، وهو "صدام حسين" عندما استولى على "الكويت" وكان فى طريقه إلى الإستيلاء على المملكة العربية "السعودية"، و"أمريكا" هى أول من كان يسارع فى تقديم الإعانات للدول الإسلامية فى حالة الكوارث والمجاعات، بينما يندر أن ترى وجودًا لدول النفط الثرية فى مساعدة أخوتهم فى الدين. وأمريكا هى التى يرجع لها الفضل فى ثراء السعودية ودول الخليج التى كانت يومًا تسكن الخيام، وكانت "مصر" تتبرع لها بكسوة الكعبة فى كل عام. وقد حوَّلتهم "أمريكا" إلى دول فاحشة الثراء، تسكن القصور بسبب اكتشافها لهم البترول، ثم تكريره وتصنيعه بواسطة خبراء ومعدات أمريكية. وبعد ذلك اشترت "أمريكا" بعض هذا البترول منهم بسعر السوق. وكان يمكن أن تستخدم قوتها العسكرية لتستولى عليه مجانًا أو تفرض عليهم شراءه بسعر بخس.
ولكن فى مقابل هذا، قطعت "السعودية" امداد "أمريكا" بالبترول أثناء حرب سنة 1973، وتسبّب هذا فى مشاكل إقتصادية خطيرة ضد "أمريكا". وكنا أيامها نقف أمام محطات البنزين بالساعات لتموين سياراتنا، وخلىَ عيد الكريسماس فى ذلك العام من الأنوار والزينات. ومع ذلك لم تنتقم "أمريكا" أو تستخدم قوتها لحماية مصالحها ضد العرب.
و"أمريكا" هى التى تحمى الشعوب العربية والإسلامية من بطش حكامهم، ولا ننسى أن "الخومينى" وأتباعه كانوا يعيشون فى "فرنسا" على نفقة جهاز الإستخبارات الأمريكية لمدى سنوات، بينما رفعت "أمريكا" تأييدها عن الشاه مما ساعد الشعب الإيرانى على الثورة والإطاحة بحكم الشاه.
ومن سخريات القدر، أن آيات الله الجدد، وعلى رأسهم "الخومينى" نفسه، لم يحفظوا الأمانة لـ"أمريكا"، وأخذ "الخومينى" ينفث عداءه لـ"أمريكا"، مطلقًا عليها اسم الشيطان الأكبر. وأول شئ عملته الثورة الإيرانية لـ"أمريكا" بعد استيلائها على الحكم هو الإستيلاء على السفارة الأمريكية فى "طهران"، وأخذ موظفيها الأمريكيين كرهائن.
ولا أنكر أن من أهم أسباب الكراهية المتأصلة فى هذه الشعوب ضد "أمريكا"، هو تأييدها لـ"إسرائيل". ولكن "أمريكا"، حتى فى هذا الأمر، تتصرف من واقع مصلحتها. وهى ترى فى "إسرائيل" دولة صديقة تستطيع أن تثق فيها وتعتمد عليها لحماية مصالحها فى الشرق الأوسط، وسط بحر من الأعداء. وهو تصرف طبيعى، يمكن أن تقوم به أى دولة فى مكانها. ولكن صداقة "أمريكا" لـ"إسرائيل" ليس معناها بالضرورة عداوة "أمريكا" للعرب. فـ"أمريكا" تعمل جهدها فى التوسط لإتفاقية سلام دائم بين الأطراف المتنازعة؛ ولكن "أمريكا" لا تستطيع أن تفرض السلام علي أحد، ويجب أن يكون الأطراف قد وصلوا إلى مرحلة الإستعداد لقبول الصلح.
ولما فطن العرب إلى اللعبة السياسية، وأصبحوا يعرفون كيف يلعبونها بمهارة، رأينا مثلا الرئيس "السادات" يحاول أن يتقرب إلى "أمريكا"، ونتيجة لذلك أمكنه أن يستميل السياسة الأمريكية إلى صفه. وقد كان نتيجة ذلك أن "أمريكا" كانت لها الدور الأكبر فى حماية نصر أكتوبر 1973 من أن يُجهض بعد نجاح "إسرائيل" فى عمل الثغرة ومحاصرة الجيش الثالث، قامت "أمريكا" بمفاوضات لفك الإشتباك وضمان وصول الإمدادات للجيش الثالث، وأيضًا قامت بمفاوضات "كامب دافيد" التى أدت إلى استرجاع "مصر" لكل أراضيها المحتلة. وفوق هذا حصلت "مصر" على مساعادات عسكرية وإنسانية تزيد عن (۲) مليار سنويًا منذ ذلك التاريخ. وكان فى استطاعة بقية الدول العربية أن تصل إلى إتفاقايت مماثلة، لو كان لهم نفس الرغبة فى السلام.
ولكن عوضًا عن السلام، رأينا الشحن المستمر من العرب والمسلمين ضد "أمريكا" قد وصل إلى ذروته ليترجم إلى عمليات إرهابية ضد "أمريكا" ومصالحها فى العالم. واستغلت منظمة القاعدة سياسة الإنفتاح المجتمعى فى "أمريكا" لتدخل وتقوم بأسوأ هجوم إرهابى فى تاريخ "أمريكا" فى ١١ سبتمبر ۲٠٠۱. فى ذلك اليوم الكئيب إستطاع إرهابيون من "السعودية" و"مصر" أن يختطفوا طائرات أمريكية، وحولوها إلى صواريخ موجّهة استطاعت أن تحطم برجى مركز التجارة العالمى، رمز الإقتصاد الأمريكى، وتحوّلهما إلى ركام. كما استطاعوا تحطيم مبنى البنتاجون، رمز القوة العسكرية. وكان حصاد ذلك اليوم قتل ما يصل إلى (٣۰۰۰) نفس من الرجال والنساء والأطفال الأمريكيين الأبرياء، الذين لم يسيئوا يومًا إلى العرب، أو المسلمين، ولم يرفعوا ضدهم سلاحًا.
وفى المقابل تعالوا بنا لنرى الرد الحضارى لـ"أمريكا" التى لو كانت فعلاً شيطانًا كبيرًا أو صغيرًا، لأرسلت صواريخها النووية، وحطّمت البلاد التى تأوى هؤلاء الإرهابين، والتى صدّرت من قاموا بهذه العملية.
ولكن "أمريكا" فكّرت طويلاً قبل أن تقوم بالرد، وعندما قامت بالرد، حرصت على أن تحمى السكان المدنيين الأبرياء فى المناطق المحيطة، وهذا أدى إلى أن تحد نفسها بعمليات صغيرة ومحسوبة، تستغرق الوقت الطويل، وتكلّف الكثير من الخسائر للجيش الأمريكى.
وبعد تسع سنوات منذ ١١ سبتمبر ۲٠٠۱، رأينا عظمة "أمريكا" وتسامحها، عندما صرّحت لمسلمي "نيويورك" ببناء مسجد اسمه قرطبة على بعد أمتار من ساحة معركة منهاتن الشهيرة، وتحدد لإفتتاحه 2011 مع الذكرى العاشرة.
يحدث هذا ضد استياء عائلات الضحايا، واعتراض الكثيرين من المواطنين الأمريكيين؛ حيث قدّرت مراكز استطلاع الرأى رفض 70% من الشعب الأمريكى، و80 % من الحزب الجمهورى بناء مسجد على هذه البقعة بالذات. ولكن مجلس المدينة، ومجلس حماية الآثار، كلاهما وافقا على إقامة ذلك المبنى الإسلامى الذى سيكلّف مائة مليون دولار، ويرتفع ثلاثة عشر طابقًا، وفى الطابق الأعلى مئذنة تناطح السحاب.
وسمعنا رئيس البلاد يؤكد أن مسلمي "أمريكا" – مثل أى مواطنين أمريكيين- لهم الحق فى بناء مساجدهم فى أى مكان يشاؤون فى "أمريكا". وعندما سُئل عن سبب تأييده لبناء مسجد فى هذا المكان بالذات، قال: إنه لا يتكلم عن الحكمة من بناء المسجد فى ذلك المكان، ولكن عن حق المسلمين فى البناء. وأضاف: إن الشعب الأمريكى انتخبه ليعمل ما هو حق، وليس ما هو شعبى.
هذه هى "أمريكا" يا عزيزى، البلد الذى تطغى فيها الحقوق على أى اعتبارات آخرى، حتى لو كانت رغبة الغالبية أو رأى رئيس الجمهورية. والقانون وقوات الأمن دائمًا فى صف كل صاحب حق، ليضمن لهم حقوقهم.
أرجو أن تكون الرسالة قد وصلت إلى جلالة ملك "السعودية" (البلد التى لا يبقى فيها دينان)، وإلى فخامة رئيس "جمهورية مصر العربية" (بلد الخط الهمايونى والشروط العشرة). وبالمناسبة هما البلدان اللذين ينتمى لهما جميع من قاموا بتنفيذ معركة منهاتن.
فى كل مرة تحل ذكرى 11 سبتمبر، أتساءل: لماذا يكرهون "أمريكا"؟ ومازلت أردد السؤال المحير، دون جواب مقنع.
جميع الحقوق محفوظة للأقباط متحدون © 2004 - 2011 www.copts-united.com