كان صديقى حاضراً لمؤتمر يهتم بالتكنولوجيا الحديثة، نشر صورة له بجوار إنسان آلى، سأل مازحاً: أين الإنسان الحقيقى؟ قال ذلك من فرط شبه الآلى بالبشرى. حدقت فى الصورة، لبرهة خامرنى شك أن الروبوت ينبض حيوية أكثر من صديقى البنى آدم. منذ اندلاع الثورة الإلكترونية يعيش الإنسان حالة من انقشاع الروحانية وذيوع المادية، يتألم أحدهم من غياب الورع الذى يسمع عنه فى الصلاة، ولا يفكّر فى اهتزاز الهاتف الذى ينبهّه لرسالة جديدة من العمل أو الصديق. يقول جلال أمين فيما يشبه السيرة الذاتية فى كتابه الجديد «مكتوب على الجبين» إنّ المراسلات الورقية كانت تكبّدهم عناءً كبيراً ليس موجوداً فى رسائل البريد الإلكترونى التى تئن كل دقيقة، السعادة والمشاعر والدفء تحملها الرسائل الورقية التى تحمل خط كل شخص بشكل مميز ليس كقالب إلكترونى واحد متشابه بين الأهل والأصدقاء والعمل. أستغرق أحياناً فى التفكير: هل الحياة دون تكنولوجيا أفضل أم لا؟.. تدعونى زوجتى لقضاء عطلة فى فندق لا يدعم الكهرباء، فقط الطبيعة هى الحاكمة، أول ما يجول بخاطرى: كيف سأشحن هاتفى؟.. ماذا عن العمل ورسائله غير المنقطعة؟.. كيف يتسنى لى التعامل مع ذلك؟! أقبع فى مكانى، أرسف أكثر فى أغلال التكنولوجيا التى تجعلنى أمسك هاتفى الذكى أكثر من مرة فى الدقيقة الواحدة، وكأن الكون سوف يتغير لو تركت الهاتف.
هل نحن مهمون إلى هذا الحد أصلاً؟.. ما الذى سيحدث لو أغلقت كل ما يربطك بالتكنولوجيا لأسبوع. كتبت لأبيك البعيد جواباً بخط اليد تخبره بأنّ المسافات لا تمنع الحنين، تخط لوالدتك تذكرها برائحة طعامها الذى لم تشمه أنفك فى أى مكان آخر، تحرر خطاباً لأخيك الأكبر تقول له إنّ القدر كان رحيماً حين منحه هو أولوية الولادة لكى يكتسب مسئولية لا يتحملها البقيّة، ترسل إلى أختك لتعلمها بأنها صغيرة مهما كبرت، متى دب العجز فى المكالمات/ الواتس أب/ الفايبر، الذين غيّبوا فن الحكى الذى يمنح الونس، وبات الحوار مع أبيك/ أحبابك لا يستغرق سوى ثوانٍ تكرر فيها بكثرة كلمات: «الحمد لله، تمام، ازيّك انت». كلمات جوفاء باردة لا تحمل إلا معانى أداء الواجب.. لا تشغل بالك بالواجب، بل بما يتعيّن فعله.
يشغلنى غياب الشعور فى عظيم الحوادث، الموت لم يعد له نفس الجلالة، الحزن لا يعشش فى النفس إلا لأوقات قليلة، مخطئ من يظن أن الحزن مظهر سيئ، الحزن شعور نبيل لا يدركه إلا من ينبض قلبه. تحميل التكنولوجيا وحدها السبب غير كافٍ، التعميم مبدأ مرفوض، شىء فى دواخلنا كُسر، قصص الحب العنيفة قلّت، حتى قصص الفراق المثيرة للشفقة باتت نادرة، غلب على التعامل شظف العيش، وهموم البحث عن لقمة/ حياة أفضل/ أمان، عسير التحقق. التفكير فى المرتب الذى لا يكفى لثلث الشهر، نصف الشهر، أصبح مثلاً قديماً. الحياة التى نحياها أقسى من التوقف للحظات للتأمل فيما يلفنا من أشخاص وحوادث ربما تعين على نوائب المستقبل، تغلغل الإحباط فى الشباب لأسباب يحمل نتائجها كبار السن والساسة.. هل الشباب فى بلد كسويسرا يفكرون فى تذكرة المسرح -إن وجد- التى أصبحت عبئاً على مصروف المنزل؟
أعود إلى التحديق فى صورة صديقى، أرانى فيه، أقل نضارة وحيوية من الإنسان الآلى.
نقلا عن الوطن
جميع الحقوق محفوظة للأقباط متحدون © 2004 - 2011 www.copts-united.com