بلدة صغيرة وهادئة، تقع بالقرب من مركز وادي النطرون في البحيرة، اعتاد سكانها كل ليلة الانتهاء من أعمالهم في الزراعة، والذهاب للمنزل ونيل قسط من الراحة، ثم السهر مع الأهل والأصدقاء، طقس يومي يمارسه أهالي "عفونة"، لكن ما حدث في ليلة 3 نوفمبر الجاري، قلب الأحداث في القرية الصغيرة رأسا على عقب، وتبدل الحال بين عشية وضحايا، في ليلة بكت فيها "عفونة".
صرخات تتعالى من هنا وهناك، الجميع يستغيث من المطر الذي أغرق المدينة في المياه، أهالي القرية الصغيرة المنسية يتحركون عشوائيا يمينا ويسارا، بحثا عن فرصة للنجاة، لكن المطر يشتد وفرص النجاة تقل، وأجساد البعض تطفو بصحبة ماشيتهم فوق المياه التي غمرت المدينة.
أهالي "العفونة" يرون لـ"الوطن" تفاصيل الليلة الكارثية
"أسوأ منظر شفته في حياتي، عمري ما هنساه، بتوع إسكندرية حتى محصلهمش كده، ده ولا الأفلام".. بصوت متهدج وألم بالغ، تحدث ياسين صلاح، أحد سكان قرية "عفونة"، يصف المشهد يوم غرق القرية الصغيرة، يقول: "أنا واخواتي الأربعة وزوجاتهم جرينا وسط المطرة، اللي عملت بحيرات مياه داخل البيوت، طلعنا فوق جسر عالي بالليل أول ما المطرة بدأت، وفضلنا فوقه حوالي 17 ساعة لحد ما المطرة خلصت، كنا قاعدين والجثث طافية جمبنا في الميّة، وكنا ماسكين في بعض لحد ما بدأت أعمال الإنقاذ".
يكمل ياسين وسط دموعه، "واحنا بنجري، مرات واحد من اخواتي وبنتها اتزحلقوا، وحاولنا نغوص وننقذهم لكن معرفناش والميّة سحبتهم، وبعد شوية اخويا لقى جثة البنت بس"، مضيفا "رحنا قعدنا في بيت واحد صاحبي في نفس القرية بس من الناحية التانية، مش عارف لو قعدنا عنده النهارده بعد كده هنروح فين، احنا سيبنا حالنا ومالنا كله هناك".
يقول الرجل الأربعيني إنه يعمل في الزراعة ورعاية الماشية مع أشقائه في أرض مملوكة لهم، لكنها لم تنج هي الأخرى من سيول "عفونة"، مضيفا، "مش هنعرف أنا واخواتي نرجع نزرع في الأرض تاني، المطرة بوظت الأرض والبيوت، والأهالي هما اللي بيتابعوا عمليات الإنقاذ بنفسهم دلوقتي".
"ياسين" فقد زوجة وابنتة أخيه.. و"أحمد" أثاث منزله يطفو فوق المياه
"الهرج" و"المرج" يسيطران على المشهد، النساء تبحث عن أطفالهن بين المياه، وأخريات يحتضنون أبنائهم ويركضون بصحبة أزواجهن في عتمة الليل، تاركين خلفهن أمتعتهن ومنازلهن التي سقطت أسقف بعضها من شدة ارتطام المياه بها، بينما تحاول أخريات التشبث بأي مرتفع يبقيهن على قيد الحياة، فيما تعلو أصوات الماشية التي تحاول جاهدة مكافحة السيول والأمطار، لتسجل مشهدا لم تمر به "عفونة" من قبل.
"أنا بيتي بعيد شوية عن وسط القرية، وأول لما الدنيا بدأت تبوظ كده حد كلمني من المركز، وقالي الحق في فيضان، استغربت الكلمة أوي، بس قمت جريت وأخدت عيالي بلبسنا في العربية، ورحنا مركز النطرون في بيت العيلة".. بهذه الكلمات، وصف أحمد سعيد حاله عند تلقيه خبر غرق القرية الصغيرة.
لم يرغب الرجل الثلاثيني في النجاة وحده من السيول التي أغرقت قريته، عاد مرة أخرى وحمل عدد من جيرانه لتوصيلهم لبر الأمان، حتى أن عجلتا سيارته انهارتا، وجرحت قدمه اليسرى من شجرة سقطت بفعل شدة الهواء، إلا أن حالة الانهيار التي وجدها في القرية كانت أكثر بشاعة من ألمه.
"حالنا دلوقتي بقى خراب وبهدلة، بين أرض باظت وناس ماتت، وتانيين تاهوا أهلهم منهم، وبيوتنا وحالتنا كلها عايمة في الميّة".. كلمات قالها أحمد سعيد بأسى شديد، الذي كان ينعم بحياة هادئة حتى 3 نوفمبر الماضي، لتأتي الأمطار والسيول بما لا يشتهي ،وتنهي أعواما طويلة قضاها في رخاء واستمتاع شديد، مناشدا الجهات المعنية بالسيطرة على الموقف، واحتواء الأزمة لمنع تكرارها.
جميع الحقوق محفوظة للأقباط متحدون
© 2004 - 2011
www.copts-united.com