هيا، أعطيني اسم منظر حركي واحد للإسلام السياسي من السعودية؟
منظر في حجم البنا وسيد قطب ومحمد إقبال (العالماني المتأسلم سياسيا) وأبو الأعلى المودودي. هؤلاء الذين اطلعوا على الغرب فانصدموا، ثم كانت ردة فعلهم العنيفة في البحث عن شيء ندعي به التفوق عليه.
لن تجدي. ستجدين قراء قرآن ومفتين، ولكن لن تجدي منظرا حركيا.
في الأثر الإسلامي أن عبد الله بن المبارك أرسل إلى شيخ الحرمين الفضيل بن عياض أبياتا يقول فيها:
يا عابد الحرمين لو أبصرتنا — لعملت أنك بالعبادة تلعبُ
من كان يخضب وجهه بدموعه - فنحورنا بدمائنا تتخضب
أو كان يتعب خيله في باطل - فخيولنا يوم الصبيحة تتعب
ريح العبير لكم ونحن عبيرنا - وهج السنابك والغبار الأطيب
هذه الأبيات جزء من صراع ممتد على مدار التاريخ الإسلامي بين طبقتين من “النجوم”. الأولى طائفة الحفاظ، والثانية طائفة “المناضلين”.
طائفة الحفاظ مهنتها أن تحفظ النصوص، وقد تتجاوز تلك الوظيفة إلى الفقه، فتستنبط من النصوص فتاوى.
أما طائفة المناضلين فالفرسان الذين يقودون الحروب، ويهملون النصوص، كخالد بن الوليد الذي كان يخطئ في المعوذتين من قلة ما يحفظ.
لست هنا بصدد الخوض في صراعهما التاريخي حول من أفضل وأعلى مكانة وأهم للإمبراطورية. إنما بصدد الإشارة إلى أن نفس الصراع استمر إلى زماننا، وكانت له هذه النتائج الكارثية التي نعيش فيها الآن. وككل صراع ينتقل من زمان إلى زمان، يظل جوهره واحدا ولكن مسمياته تتغير.
ولنبدأ من الوصف الذي استخدمه ابن المبارك عن بن عياض - “يا عابد الحرمين”. مكة والمدينة بقيت على مدار التاريخ الإسلامي، موطنا للحفاظ لا المناضلين المجاهدين. ربما كان السبب الأحداث الدموية التي شهدتها الفتنة الكبرى وحرب بن الزبير، والتي جعلت الرأي العام يفضل النأي بالمدينتين المقدستين عند المسلمين عن الدم وعن استحلال حرمة زوجات الصحابة. لم يكن الاستثناء إلا فترات في التاريخ أيام حروب القرامطة وسرقة الحجر الأسود من الكعبة.
فالكلمة هنا، عابد الحرمين، تأتي لا لمدحه كما نقول “خادم الحرمين” مثلا، إنما على سبيل الذم. ذم متكرر يوجهه “المجاهدون” إلى الحفاظ. يذكرونهم فيه بأنهم يعيشون في أمان، (يلعبون بالعبادة)، بينما “المجاهدون” يبذلون أقصى ما يملكه إنسان. حياته.
استمرت مكة والمدينة إذا في تخريج الحفاظ.. واستمرت العواصم السياسية في تخريج المقاتلين. لكن الأهم، استمر المقاتلون في ابتزاز الحفاظ لكي يعترفوا لهم بالفضل عليهم. واستمر الحفاظ يشعرون بأنهم -رغم كل ما يحفظون- مقصرون، بالمقارنة بتضحيات المناضلين. وعبروا عن ذلك بشيئين:
1- الدعم الفكري، الفتاوى التي تحفز على مزيد من القتال.
2- الدعم المادي، الانشغال بجمع الصدقات للإنفاق على القتال.
في ظل “الوهابية” لم يختلف الأمر.
لقد نشأ نفس الحلف المتكرر بين “المناضلين” المقاتلين من آل سعود، والحفاظ من أتباع الشيخ محمد بن عبد الوهاب. وأسفر عن ما عرف بالمملكة العربية السعودية. مملكة محافظة ثرية تريد أن تحافظ على ثرواتها. وبالتالي، في غياب “النضال”، قلت قيمة الحفّاظ من الوهابيين إلى الحد الذي تحتاجه هذه المملكة سياسيا. الدعم المعنوي للحكم.
لكن الأمر لم يتوقف عند هذا. لقد استمرت العادة التاريخية ولكنها امتدت إلى خارج حدود السعودية.
الإسلام السياسي - في صورته الحديثة - لم ينشأ من السعودية. لماذا؟ لأنه لم يكن لينفع السعودية في صراعاتها مع الأتراك المسلمين، ولا في الصراع اللاحق الذي أسفر عن انتصار آل سعود. كلها كانت صراعات مسلمين ضد مسلمين.
الإسلام السياسي في صورته الحديثة نشأ في أمم الصراع مع الغرب. أو لنقل أمم الاطلاع على الغرب ثم الصراع معه. الانبهار به ثم الانقلاب عليه. الإحساس بالدونية نحوه ثم تصدير الفوقية. نشأ في مصر، وفي الهند/باكستان. وفي الشام.
صب اللعنات على الوهابية مجرد صورة أخرى من تفكيرنا الذي يلقي باللوم على الآخرين. تفكيرنا المشغول بالبحث عمن نلوم لا البحث عما نستطيع أن نفعل بأنفسنا لصالح أنفسنا.
بل إن الوهابية ابنة بيئتها الصحراوية. والكارثة الأكبر تكمن في البلاد والجماعات التي نقلت تلك الثقافة من بيئتها وأتت بها إلى “حضّانة”. هذه البلاد - كمصر ومسلمي الهند وأفغانستان والبلقان - حورت الوهابية إلى سلاح عنيف، ومتوتر، ككائن حي يعيش في غير بيئته.
ربما يلزمني أن أقول هنا إنني لا أقصد توجيه اللوم إلى مصر ونزعه عن السعودية. بالعكس. ما أقصده هو أن ننشغل في مصر بالتعامل مع دورنا، وفي تقوية ثقافتنا، وألا نكتفي بإلقاء اللوم على الآخرين، لأنه لن يفيدنا. وفي الظرف السياسي الحالي ربما يصير “كلمة حق يراد به باطل”.
وفي هذه الظروف لا بد أن نتفهم تماما تماما تخوف السعودية من سعي إيران إلى خنقها طوال السنوات الثلاثين السابقة. فلا ننجرف إلى الحديث عن الوهابية وكأنها وحدها أصل الشرور، وننسى ولاية الفقيه الأشد خطرا وفتكا.
في نفس الوقت السعودية ليست بريئة من اللوم. فهي تغض الطرف عن نوعي الدعم الذي يقدمه “حفاظها” ومواطنوها إلى جماعات الإرهاب. وأقصد بهما الدعم الفكري بالفتاوى المتشددة، والدعم المادي باستغلال رغبات المتدينين الخيرة في التصدق بالمال للمحتاجين أو لبناء مساجد. لا بد أن تفهم هذا.
وعلى السعودية أن تتفهم أيضا مخاوف دول “النضال الإسلامي” من دور “الحفاظ الوهابيين” في إذكاء التشدد، وفي مد الجماعات الإرهابية بالمؤن.
من المهم هذا الآن لأن المنطقة حولنا اضطربت. اضطربت اضطرابا قريبا من اضطراب العشرينيات الذي أنشأ الخريطة الحالية. ومن المحتمل جدا أن تنشأ عنه خريطة جديدة.
دون استراتيجية واضحة تضع في ذهنها هذه العوامل جميعها، وتتفهم أن هناك أكثر من وجهة للنظر إلى أي قضية، سنهزم أنفسنا بأنفسنا، ولن نستفيد شيئا.
إسقاط الطائرة الروسية على يد الجيش التركي نذير بكم المخاطر التي تخوضها المنطقة حاليا. والتي تستلزم منا أن نأخذها بجدية، وأن لا تكون الحوارات السياسية بيننا بخفة خناقة من بلكونة إلى بلكونة. ألا نستسلم لعادات التراشق الإعلامي المهلكة، وأن نحاول - ولا سيما بين مصر والسعودية - الارتقاء بمستوى الحوار السياسي الإعلامي. بدلا من الكلمات والمعايرات المحفوظة، من هنا وهناك.
من المهم أن تنتبه النخب في مصر والسعودية إلى الأهمية الاستراتيجية السياسية لهاتين الدولتين معا، فلا نجعل الأيديولوجيا تتحكم في السياسة. هي تشارك في صناعة السياسة، نعم، كعامل وسط عوامل، لكن لا ينبغي أن ترسم وحدها السياسة.
نقلا عن دوت مصر
جميع الحقوق محفوظة للأقباط متحدون © 2004 - 2011 www.copts-united.com