لأنى لا أعرفك ولا أعرف اسمك أو رسمك أو رائحة عطرك، اغفرى لى لو اخترعتك من خيالى وأوهامى، اعتبرينى رساماً يرسم امرأة بالألوان والظلال، اعتبرينى نحاتاً ينحت من الصخر تمثالاً، اعتبرينى طفلاً على الشاطئ يصنع من الرمال جسد امرأة وتأتى موجة تلهو بدميتى. طول عمرى أرى البحر هو الذكر والأرض هى الأنثى، وطول عمرى أرى البحر يعانق الأرض ويلثمها، وهى تفر من بين يديه لحظة ثم تعود لترتمى بين ذراعيه وهى مستسلمة راضية بهذا الاحتواء. جئت إلى الدنيا من رحم امرأة هى أمى، أول وجه أنثى تقع عليها عيناى، وقد ظللت أبحث عن أمى بين نساء العالم، فلم أعثر على حنانها الذى بلا أجر، ولا عثرت على أمومتها المتفردة، أمومة الاحتواء حتى التلاشى والذوبان، قالوا لى «لن تتكرر يا عمرى»، قلت: أمى امرأة عادية متواضعة كالعشب وليست فلتة زمانها، أمى ليست مفيدة عبدالرحمن ولا أمينة السعيد رموز جيل وضع بصمته ومضى، ولم يعبأ أحد بالرد. أدركت أن «حنية» أمى التى تدفئنى من صقيع الدنيا لن تتكرر، ولا نصائحها على جناح حب ولا نظرتها التى ترمقنى بها تلومنى سوف تتكرر، بحثت عن هذا القلق الحنون إذا غابت صورتى عن عينيها، فما وجدت، يا ما غضبت منى وقاطعتنى يوم عصيت لها أمراً، أين أنت الآن يا أمى من زمان يقاوم السلطة الأبوية بل يسخر منها، أين أنت الآن يا أمى من زمن الوحوش يحملون النساء للمخادع بالقوة تحرشاً مريضاً أو ذكورية متسلطة، هل أبحث عن امرأة مثلك يا أمى، منزوعة الأنانية؟
اغفرى لى لو صنعتك من خيالى وولدت من رحم عقلى ما أنا إلا كاتب يعيش فوق الورق ويتغذى على الحروف ويحيا بالكلمات ويتكئ على قلم وقد يسبح ضد التيار. ولست بشاعر يستحضرك قصيدة تسكن ديوانا أنا أملك خيالا يجوب سماوات بعيدة وقد أعتلى موجة خرافة أو أقبض على وهم!
أنا مثلاً، أبغيك «توأم روحى»، أنطق بكلمة فأسمع صداها عندك، ابتسم، فتفرحين، أكتئب، حينئذ تبكين، أتكلم فتسمعين، أشكو الدنيا لك فتصغين، أتألم فتتألمين، هل أريدك نسخة منى؟ لا، أنا أخاف من ديمقراطية زائفة تزين القبح وتزور الحقيقة، أريدك مرآة لى، أرى فيها نفسى بوضوح، ذهب الأصدقاء ولم يبق سواك، أنا مسؤول منك سيدتى، لا تنسى أنى كنت طفلاً ومازلت، لا تلتفتى إلى صوتى الأجش واسمى الرنان وشبكة المعارف الكبيرة، فالطفل بداخلى أخفيه عن العيون، وكل رجال العالم - حتى القادة والحكام والمصارعون - يخفون الطفل الذى بداخلهم. حين كنت فى اليابان فى مهمة، انسلخت عن الوفد لأنى تعلقت بقطار مينى يصفر ويطلع الدخان من مدخنته ويتوقف فى المحطات وينزل ركاب ويطلع ركاب وأنا مبهور، والتفتُ حولى فوجدت 20 طفلاً يتفرجون مثلى على هذه «اللعبة»، وأنا لم أعرف لعب الأطفال، لم أعرف غير الكرة الشراب نحشوها بقطع قماش ممزقة ونخطط ملعباً بالجير الأبيض، لقد خجلت أن أحكى حكايتى مع قطار اليابان لامرأة لأنى فقدت البوصلة وتاه الرفاق، وعدت للفندق فى المساء بعد أن بحثت عن عنوان سفارتنا فى طوكيو، نعم، خجلت أن أكشف عن الطفل المختبئ داخلى الذى مازالت عيناه تدمعان فى فيلم «حبيبى دائماً».
اغفرى لى أنى أحترمك فى زمن القطار بلا سائق، والطيارة دون طيار، والإنفلونزا بلا دواء، أخترعك قوية كالنمر مع الحياة وضعيفة كقطة بين ذراعى، أريدك المقاتلة والقتيلة، أريدك المصارعة والصريعة، أريدك البحر والميناء، أريدك الغيمة والمطر، أريدك الماء والنار، أريدك الفرسة والفارس، أريدك النسمة والعاصفة، أريدك الفيضان والجدول، أريدك الجرح والسكين، أريدك الشبكة والصياد، فهل أطلب المستحيل؟!
اغفرى لى أنى زرعتك فى أرض خيالى، فأنا أحلم بامرأة مهمومة بى ليس أكثر من نفسها، أريدك بلسماً لانكساراتى وما أكثرها، أريدك حاضناً لأفراحى وما أندرها، أريدك غطاءً لى وستراً لبعض عوراتى، ضمدى جراحى إن استطعت، ازرعى الأمل فى صحارى حياتى، أمطرينى بسيول حبك حتى أغرق، اجعلينى أيقونة عمرك إن أردت، انسفى تلال إحباطاتى إذا استدعى الأمر، امنحينى السلام إذا اندلعت حروب البشر، ضمينى إلى صدرك كرضيع، فمنذ زمان وأنا أشتاق لحضن أمى، ذلك الود بلا أجر، خذينى إلى حدائق الفرح فقد سكنت المرارات طويلاً فى صدرى وسكنت فى فندق ذاكرتى. استدعى طفولتى، فقد كبرت قبل الأوان، كونى لى الطريق والرفيق، اسقينى إذا كنت ظمآن، ومررى كفك فوق جبينى إذا زارنى صداع مفاجئ، لقنينى ألف باء الشوق إليك، أنا أحتاج إليك حين يعربد الحنين فى صدرى، كونى الحضور والغياب والأمل والسراب، لا تسخرى من حكاياتى الفارغة فقد ذبحتنى الجدية، لا تثيرى غيرتى الطائشة فقد اخترتك بمحض إرادتى، أعطنى صوتك فى حزب العشق الحاكم لقلبى، كونى الفردى والمستقل والتحالف، دعينى أضع رأسى على صدرك فأرضع حنانك واهتمامك، أنا العصفور الباحث عن عش على أغصان شجرتك، فهل فى مقدورك سيدتى أن تكونى تلك المرأة الغالية أم هو الهذيان بعينيه؟
أعتذر إذا صنعتك من خيالى، فقد ضغطنى الواقع بمرارته، وأذاقنى طعم العلقم دون إرادتى، وجعلنى منافقاً دون رغبتى وحولنى إلى مخلوق معجون بالخوف من خياله. أريد الأمان وأنا أصرخ أمامك وأبوح بما فى صدرى من أمواج الغضب، فأنا كائن حى على هذا الكوكب ولى حقوق وواجبات أعرفها أكثر مما تعرفها تمثيليات حقوق الإنسان، أريد أن أتحرر من كل قيودى، أريد العيش أحياناً «فى كوكب تانى»، أريد النطق بالحق غير منقوص، الحق كله لا نصفه أو شىء آخر يشبهه، صارحينى بما فى قلبك الآن وليس غداً قبل أن تتراكم التنازلات وتنفجر فى وجهى. أكره التربص والتفسير المتآمر، أريد مساحات من الحرية أرتع فيها، أريدك عوناً لا عبئاً، أريدك نوراً لا ناراً، فأنا مشتاق أن أعانقك دون العين الثالثة أو الجحيم، مشتاق أن أتظاهر من أجل إعلاء الصدق، مشتاق إلى دستور نصنعه معاً بنداً بنداً بالمحبة الأطول عمراً من الحب، ولتكن أول مادة فى دستورنا الخاص الغدر أسوأ العملات فى التداول.
اغفرى لى جموح خيالى إذا صنعتك على مقاسى وأسكنتك كتالوج عمرى، ربما كانت هذه المرأة خيوطاً من الوهم أو كانت قطعة صلصال، ربما كنت امرأة إلكترونية لها سوفت وير وبرنامج، مع أنى مشتاق منذ سنين لامرأة عفوية تخلو من البرمجيات وليس فيها من صفات نساء التوك شوك، امرأة تخاف على وليفها ودائمة القلق عليه، تطارد من أجله الغيمات السود ليمطر عليها حناناً كالسيول، فلا شىء يحرك طاقة عطاء الرجل قدر إكسير الحنان والاهتمام.
أيا امرأة من رحم خيال وذكورة قلم، يا امرأة غالية لا أعرفها فى اللاوعى ترقدين، وتطلين من الشرفات كالبرق وتختفين، يا سيدة المحال والمستحيل فى برارى الوجود، قد تأتين يوماً فأناجى طيفك، وتذهبين فأعرف طعم وجع البعاد، يا حضوراً بلا انصراف، يا عطراً نفّاذاً بلا غياب، يا ضحكة حلوة على الشفاه ولا تخفت الرنين.
يا امرأة افتراضية فى كوكب رأسى، مجهولة الهوية والعنوان...
هل تظلين افتراضية؟!
نقلا عن المصري اليوم
جميع الحقوق محفوظة للأقباط متحدون © 2004 - 2011 www.copts-united.com