ÇáÃÞÈÇØ ãÊÍÏæä
طباعة الصفحة

مكانة البطريرك عند المسلمين

د. ماجد عزت اسرائيل | 2010-10-07 00:00:00

بقلم: د.ماجد عزت إسرائيل
 يمثل البطريرك في الكنيسة القبطية الأرثوذكسية أعلى سلطة دينية، ولذلك فإن مكانته –أو إذا جاز لنا التعبير جلوسه على كرسي "مار مرقس"- تحظى بلفت أنظار أتباع مذهبه عامة، وشعب كنيسته بصفة خاصة.

 ومنذ دخول الإسلام أرض "مصر"، حظيّ البطريرك بمكانة كبيرة عند المسلمين، لدرجة أن بعض الحكام والولاه كانوا يتحرُّون اختياره؛ ونذكر على سبيل المثال ما حدث  فى آوائل القرن الحادي عشر الميلادي، عندما تنيح (تُوفي) البابا الرابع والستين الأنبا "زخارياس الأول" (996م -1023م)، فتطلع بعض الأراخنة إلى أن ينالوا منصب البابوية بواسطة استخراج أمر من الخليفة الفاطمي، فلما علم "بقيرة الرشيدى" الكاتب القبطي بذلك، حميت الغيرة على الكنيسة في قلبه.

 فجمع قومـًا من الأقباط وذهب إلى الوزير "عليّ بن أحمد"، ودار حوار بينهما حول ذلك الأمر، وكان الوزير يتصف بالحكمة والفهم وسمحـًا مع الأقباط، فذكر لـ"بقيرة" والأراخنة: "أنه عند رسامة البطريرك يتوجب دفع ثلاثة آلاف دينار -العملة في تلك الفترة- وقد تركناها كرامة لكم، فيجب أن تفعلوا بعد هذا ما يرضي الرب، كما يفعل عندنا في بغداد"، وذلك لأنهم كانوا عندما يرسمون بطريركـًا يجتمعون بداخل الكنيسة ويختارون -ينتخبون- مائة رجل من رهبان الأديرة، ثم يفحصونهم حتى يصبحوا خمسين، ويعيدون فحصهم إلى أن يصبحوا خمسة وعشرين، حتى يصلوا من بينهم  إلى ثلاثة مختارين ويكتبون أسماء الثلاثة في ثلاث رقاع والرابعة يكتبون فيها اسم الرب، وتُشمع وتوضع على الهيكل، ويصلون قداسـًا، وبعده يُحضِرون طفلاً صغيرًا بريئـًا من أولادهم  لم يرتكب إثمـًا، فيمد يده ويستخرج واحدة من الرقاع؛ فيرسمون صاحبها بطريركـًا، وإذا كان فيها اسم الرب علموا أنه لا يوجد مَن يصلح من الثلاثة؛ فيكتبون أسماء ثلاثة آخرين ويستمرون كذلك حتى يختار الرب واحدًا يرسمونه؛ "فتعجبوا من حكمته ومشورته في إخبارهم هذا الأمر، وبالرغم من ذلك لم يأخذوا بآرائه.

 واجتمع الأساقفة والأراخنة يؤيدهم الشعب على اختيار أحد رهبان "دير القديس أبو مقار"، وهو "البابا شنودة" الثاني "البطريرك الـ65(1024-1038م) ووافق الخليفة على قرار اختياره.

 وفى القرن الثالث عشر الميلادي زادت مكانة البطريرك عند المسلمين، وبالتحديد في عهد "البابا كيرلس" الثالث، والملقب بـ"إبن لقلق"، (1235-1243م)، فعندما علم هذا البطريرك بوجود جماعة تقف على باب كنيسة "القديس مرقوريوس" لمحاولة إعاقته هو ومَن معه عن حضور عيد تذكار قديس الكنيسة؛ امتنع عن الحضور، فلما علم الوالي أرسل على الفور أحد أمرائه لخدمته وليعينه على إقامة الصلاة ويقدم له التهاني.

 كما كان من عادة الفقهاء المسلمين أن يجتمعوا مع السلطان، وفي ثالث يوم عيد "القديس مرقوريوس" حضروا عنده، وكرروا شكواهم من المسيحيين ومن ركوبهم البغال، فلم يصغ الوالى إلي شيىء من ذلك، وبعد يومين قال الوالي في مجلس من مجالسه: "بلغني أن أهل "مصر" -القاهرة القديمة- تعرضوا للأب البطريرك وإلى كنيسته، وأقسم بالله لئن جرى شيىء من هذا، فسيكون عقاب مَن يفعل هو إزهاق روحه"، واشتهر هذا الأمر لدى كل مسيحي واطمأنت نفوسهم، واطمأنت نفس البابا البطريرك.

 وقد حدث في عهد ذات البابا أن تعرضت "الكنيسة المعلقة" لحادث سرقة لبعض الآوانى النحاسية؛ وبعد أخذ شهادة الجيران المسلمين الذين أدَّوا شهادة الحق على أن حادث السرقة تم على يد مؤذن المسجد المجاور لذات الكنيسة، فتجمهر الناس لإيقاع الفتنة، فجأء الوالي وصرف الناس، وأمر بإغلاق المسجد، وتجمع بعض كبار المسلمين وتوجهوا لنائب السلطان وشكوا إليه وقالوا: "يا مولانا.. تغلقون المساجد وتفتحون الكنائس"؟! فقال لهم: "هذا حديث لا يصح أن يُسمع، فالكل بفتح (مساجد وكنائس) ومَن أراد المسجد ذهب إليه، ومَن أراد الكنيسة ذهب إليها، ولكن بشرط ألا يوذي أحدًا ولا يتعرض أحد لآخر؛ فهؤلاء رعية السلطان، وأنتم أكثر من يعلمون، وإن كان هذا المسجد فقير، فأنا  أقوم بمطالبه، إلا أن التعدي لا يمكن لأحد أن يقوم به".

 ويذكر عن تلك الفترة كلها كما وصفها البابا البطريرك أن كان المسيحيون مع المسلمين في إنصاف عظيم وإكرام جسيم وود عظيم؛ فالله سبحانه يحرس أيامهم وينصر سلطانهم، وهو سلطاننا وإمامهم وهو راعينا".

 وفي العصر العثماني تمتمع البطريرك بمكانة كبيرة لدى المسلمين؛ لدرجة وصلت إلى قيامه بدور شبه قضائي ولجوء بعض المسلمين إليه فى حالة كون النزاع مع قبطي، بل أننا نجد بعض وثائق المحكمة الشرعية وقد سجلت لنا مثول البابا نفسه بين يدي القاضى المسلم لفض بعض المنازعات ما بين بعض المسلمين، أو ما بين بعض المسلمين والأقباط.

 وفي منتصف القرن التاسع عشر، زادت مكانة البطريرك لدى المسلمين، وقد أوصاهم دينهم بحسن معاملة أهل الكتاب واستنكر أن يسىء أحد إلى ذمي، ومن هؤلاء "البابا كيرلس" الرابع البطريرك الـ110، (1854-1861م)،| والذي لقبوه بـ"أبو الإصلاح" لما أدخله من تطوير فى العملية التعليمية، لدرجة إصداره أمرًا إلى رهبان "دير بوش" -مركز "ناصر" محافظة "بني سويف"- بتعليم أبناء القرية من مسلمين وأقباط، بل قدم للجميع المساعدات من المأكل والملبس في محبة تامة.

 ومن أوائل البطاركة الذين نالوا مكانة كبرى لدى الحكام المسلمين في منتصف القرن العشرين، "البابا كيرلس" السادس، البطريرك الـ116، (1959-1971م)، والمعروف في الكنيسة القبطية الأرثوذكسية ولدى المؤرخين والسياسيين بـ"رجل الصلاة والقداسات"، والذي كان يستقبله الرئيس "جمال عبد الناصر"، (1954-1970م) في منزله، بل تبرع له بقطعة أرض أُقيمت عليها الكاتدرائية الحالية بـ"العباسية"، كما تبرع أولاده بما يملكونه من أموال للمساهمه في بنائها.

 وفي آواخر القرن العشرين نال قداسة "البابا شنودة" الثالث البطريرك(117) مكانة كبيرة لدى المسلمين على مستوى "مصر" والعالم العربي؛ وذلك لمواقفه الوطنية البارزة، وخاصة مشكلة "فلسطين" ورفضه التام دخولها إلا مع المسلمين، فلقبوه بـ"بابا العرب"، وما يزال يُعرف بهذا اللقب.

 وهكذا يتبين لنا من الأمثلة التي قدمناها ومن غيرها على مدار التاريخ، أن التعامل ما بين المسلمين ورموز الديانة المسيحية كان قائمـًا على الاحترام والتقدير المتبادل بينهما، حيث أن الأديان تنبع من منبع إلهي واحد، وكلها يدعو إلى مكارم الأخلاق وإعلاء الجانب الروحي لبسط الأمن والسكينة في أرجاء الأرض، والظفر برضا الله فى السماء، وغلب على منطق الطرفين أن الدين لله والوطن للجميع.

 

المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع

جميع الحقوق محفوظة للأقباط متحدون © 2004 - 2011 www.copts-united.com