الرائد: "مختار عبد الحليم":
- تعاملنا مع الأسرى في إطار "اتفاقية جنيف"
- استقبلنا الأسرى في أول يوم لحرب أكتوبر
- الأسرى الإسرائيليين كانوا يتمتعون بشهية طيبة للغاية!!
- كان دوري هو حماية الأسرى وتوفير كافة حقوقهم
- لا يوجد في الجيش مسلم ومسيحي
أجرت الحوار: هند مختار
دائمـًا الحرب هي التي تكتب تاريخ الشعوب، وما بين هزيمة ونصر، ونصر وهزيمة، تُسطـَّر الوقائع التاريخية.
ويعتبر النصر المصري العسكري للقوات المسلحة المصرية في السادس من أكتوبر سنة 1973م، من أهم الوقائع في التاريخ العسكري على مستوى العالم وعلى مستوى "مصر" لأنها كانت مكتملة العناصر، وغيـَّرت الكثير من المفاهيم.
ودائمـًا ما يكون التركيز على المقاتل وبطولاته وما قام به من تضحية، ولكن هناك على الجانب الآخر من الحرب حكايات وبطولات من نوعٍ آخر؛ تلك الحكايات تُظهر لنا فكرة أن الاهتمام بالتفاصيل الصغيرة بنفس القدر من الاهتمام بالخطط الكبيرة هو الذي يحقق النجاح.
حوارنا هذه المرة مع شخص مميز بالنسبة لي؛ هو مع والدي الرائد "مختار عبد الحليم"، والذي كان دوره في تلك الحرب من داخل معسكر الأسرى المصري.
* في البداية.. ماهي الاستعدادات التي كانت تقوم بها القوات المسلحة المصرية لاستقبال الأسرى؟ ومَن هم المـُكلف بهم القيام بهذه الأعمال؟؟
** من أهم ما حدث في "حرب 73" هو االتخطيط الجيد والاهتمام بكل التفاصيل؛ سواء الكبيرة منها أو الصغيرة، وأنا أذكر هنا حديث العقيد "محمد محمد قنديل"، وهو أول قائد عملت معه قائد الكتيبة 16 مشاة، حيث أوضح أن القوات المسلحة ككل كالساعة الميكانيكية؛ بها تروس كبيرة وتروس صغيرة، وأن أصغر ترس يمكن أن يُعطل هذه الساعة، فمهما كان الشخص دوره بسيط كان لابد أن يتقنه.
وعما يخص الأسرى فهذا هو ما تنظمه "اتفاقية جنيف الدولية لحقوق وواجبات الأسرى"، فـ"حرب 73" لم تكن فقط يوم 6 أكتوبر، بل بدأت منذ عام 67، وبالتحديد من يوم الهزيمة، وأنا أعتز بدوري والذي كنت من خلاله قائدًا لطاقم رعاية الأسرى ورعاية شئونهم ورفع الأذى عنهم، وهذا يبين الوجه الحضاري لـ"حرب أكتوبر"، والتي اهتمت بكل شيء حتى الأسرى ورعايتهم، ولقد تدربنا على هذا الدور منذ سنة 1969 وحتى 1972م، وقد كان هناك كل عام مشروع نتدرب عليه حتى سنة 1973، وكان بها مشروع عند ظهور "الرمز بدر"، وهو أن تتحول هذه العمليات إلى عمليات حقيقية، ومن كثرة تكرار هذا الأمر أصبح بيننا كالنكتة، وشبهناه بختم الدمغة على الفاتورة، لن يضعه البائع ولن يدفعه المشتري، حتى تحول إلى حقيقة، وبدأت العمليات العسكرية.
وأضاف أنه يوجد في وقت السلم جنود لهم دور عظيم في الجيش، ولكن ليس لهم دور في وقت الحرب؛ مثل الموسيقات العسكرية وضباط اللياقة البدنية، فمن أدوارهم في الحرب تجهيز المقابر مثلاً، فمعسكر الأسرى يوجد به أكثر من جهة تتعاون بها، والعملية كانت مفاجأة جدًا، وظهر الرمز وجاءنا أسرى في المعسكر من أول يوم في السادس من أكتوبر، وكان مقر المعسكر في السجن الحربي، وكان هذا هو المعسكر الرئيسي.
وأوضح أن أول ما كنا نفعله بالأسرى هو القيام بعملية تطهير للعسكري؛ حيث نقوم بنحرق ملابسه ثم يستحم، ويحلق ذقنه ويرتدي ملابسـًا جديدة؛ كما تنص "اتفاقية جنيف" على أن الأسير يأكل من نفس القدر الذي يأكل منه العسكري، والحقيقة أن الأسرى الإسرائيليين كانوا يتمتعون بشهية طيبة للغاية، كأنه لن يأكل مرة ثانية.
* وماهو السبب في رأيك لذلك؟
** تاريخهم الأسود في معاملة الأسرى، فكانوا يعتقدون أنهم سوف يُعاملون بنفس المعاملة، وأنا أذكر "إيجال" قائد "طائرة فانتوم"، وكان معه عسكري بسيط كان معه سِجل يدوّن فيه بيانات الأسرى، وكنا في الخريف وكان الجو لطيفـًا، وكان طعام الإفطار ساخنـًا، وكان العسكري يحب أن يسأل كل يوم هذا الضابط عن كيفية أسره؛ فكان الضابط يجيب وهو يأكل طعام العسكري على اعتبار أنه لا يشعر، وحينما نبهت العسكري لذلك قال إنه لا يهتم بالطعام، ولكن سعادته الحقيقية بسماع قصة أسره.
* وماذا عن لدورك في المعسكر؟
** كان دوري هو حماية الأسرى وتوفير كافة حقوقهم؛ مثل طوابير الترفيه والرعاية الصحية، وفي حالة وصول خطابات لهم أسلمها لهم وأخذ خطابات منهم لتوصيلها لأسرهم، كنا نعطيهم حتى علب السجائر يوميـًا؛ فالأسير ليس عبدٌ.
* هل توجد مواقف مرت بك لا تنساها في معسكر الأسرى؟
** من المواقف الإنسانية العظيمة التي أذكرها في معسكر الأسرى، أن كنا في "عيد الفطر"، وكنا نجلس نأكل الكعك، وكان الأسرى أيضـًا يأكلون كعك العيد، وفجأة أُصيب أحد الأسرى الإسرائيليين بحالة هيستيرية رهيبة، وجئنا بطبيب الوحدة "كمال متولي"، وبطبيب أسير يهودي اسمه "ناخوم"؛ فـ"اتفاقية جنيف" تنص على أنه في حالة وجود طبيب من الأسرى يتم حضوره مع الأسير أثناء توقيع الكشف الطبي عليه، وحينما تم الكشف عليه وتبين لهما أنها حالة هيستيرية، قاما بإعطائه حقنة مُهدئة مؤكدين على أنه سوف يعود لحالته الطبيعية بعد نصف الساعة.
وأضاف أنه حينما أفاق هذا الأسير سألناه عن سبب الهيستيرية؛ فقال إنه حينما رآنا نحتفل بالعيد تذكر أن هذا اليوم يناسب أيضـًا الاحتفال بعيد ميلاد ابنته "نوجا"، وكان قد خطط مع زوجته للاحتفال بهذا اليوم، وكان رئيس المعسكر هو العقيد "عباس عثمان"، وهو كان سودانيـًا، حيث أن الجيش المصري وحتى الآن يقبل بوجود ضباط وجنود من "السودان" داخل صفوفه، وقد انفعل العقيد "عباس عثمان" على الضابط الإسرائيلي وقال له: "أنت حزين على عدم الاحتفال بعيد ميلاد ابنتك، وأنتم الذين قمتم بقتل أخي في "حرب 67"، ويتمتوا أطفاله الذين ينظرون إلى صورته المعلقة ويسألون كل يوم: (أين بابا يا عمي)؟ أنت تحتفل بعيد ميلاد ابنتك وأولاد أخي أيتام؟ أنا سوف أريك كيف تحتفل بعيد ميلاد ابنتك).
ويتابع "عبد الحليم"؛ توترتُ وتوتر الأسير، وبدأت نفسه ترفض الطعام، وأنا مع توتري قررت أن أبلغ القيادة إذا حدث أي شيء.
وفي اليوم الثالث حضر لدينا بالمعسكر مجموعة من الرجال يرتدون ملابس سوداء، ويحملون حقائبـًا سوداء؛ فكانوا يشبهون الـ"under taker" أو "الحانوتية"، ولكن بالزي الأوروبي، وتأكد للجميع وللرجل نفسه أن هذا الأسير هالك، ودخلوا مكتب القائد وطلبوا دخول الأسير -والذي كاد أن يموت- ودخلت معه، فقال له "عباس": (أنت تريد أن تحتفل بعيد ميلاد ابنتك على الرغم من أنكم يتمتوا أولاد أخي، ولكن هذا من حقك، فالحرب حرمتك من هذا كما حرمت أولاد أخي من أبيهم)، وأشار للرجال الذين يرتدون السواد وقال إنهم العاملون بإذاعة "قول قاهير العبيرة"، أو "صوت القاهرة" بالعبري، وأنه يمكنه أن يسجل رسالة صوتية لابنته يهنئها فيها بعيد ميلادها، وأن هذا هو العقاب الذي يوقعه عليه، وفجأة ردَّت الروح في وجه هذا الأسير، ونظر للجميع تنم عن اعتذار عما فعلته "إسرائيل" كلها من المذابح؛ عن "دير ياسين"، وعن "بحر البقر"، وغيرها.
ثم سألته بها عما ينوي فعله بعد الحرب؛ فقال إنه من "البرازيل"، وأنه بعد الحرب سوف يترك "إسرائيل" ويعود إلى "البرازيل" مرة أخرى؛ فالمصريون والعرب ليسوا وحوشـًا ولا سفاحين كما كانوا يروِّجون عنهم في "إسرائيل".
* وماذا عن الأسرى المصريين في 73؟
** لم يتم أسر أي عسكري مصري واحد، بل كل الذين تم أسرهم عقب الثغرة في "السويس" كانوا مدنيين، وقد تم تبادلهم مع الأسرى الإسرائيليين؛ حيث تنص "اتفاقية جنيف" على أن كل الأسرى يتم تبادلهم بكل الأسرى من الجهة الأخرى.
* حينما نتحدث عن "حرب أكتوبر" تكون هناك صبغة دينية، فـ"المعركة بدر" كانت في شهر رمضان ووقت الإفطار، أين دور المصري المسيحي في هذه الحرب؟؟
** لا يوجد في الجيش مسلم ومسيحي، بل يوجد ضابط جندي؛ فعندما نقول: "اهجم"؛ لا نقول "اهجم يا جرجس وانتظر يا محمد"، بل نقول: "اهجم للأمام"، فلا يتم ملاحظة هذا، ولكن العلاقة بين المسلم والمسيحي في المجتمع كما هي في الجيش، ولكن بالطبع توجد بطولات، ولكنها بطولات الجيش المصري وليست بطولات المسلم والمسيحي.
* لماذا لا تركز وسائل الإعلام والقوات المسلحة على ما حدث في معسكر الأسرى؟
** لأن المقاتل مثله مثل نجم السينما، هو الذي يظهر في الصورة في حين أن المقاتل يحتاج لسبعة أشخاص وراءه لكي يقاتل، كالممثل نجد وراءه فريقـًا من العاملين، ونحن في أمس الحاجة إلى التركيز على هؤلاء التروس الصغيرة، لأن التحدث عن المقاتلين والمستمر على مدار هذه السنوات بدأ يفقد بريقه؛ فنحتاج إلى نماذج أخرى.
وأوضح أن مَن حاربوا في حرب أكتوبر في طريقهم الآن إلى الانقراض، فلابد من وجود تكريم لهؤلاء، لأن لولاهم ما كانت هناك الرفاهية التي نحيا فيها، فيجب أن نُذكـِّر الأجيال التي التي لم تعاصر الحرب بهم، لأن المصريين من سن 45 فما دون لا يعلمون شيئـًا عن حرب أكتوبر إلا الذي يشاهدونه في وسائل الإعلام، وكلها أشياء قديمة، فلابد من تسليط الضوء على هؤلاء للأجيال الجديدة.
جميع الحقوق محفوظة للأقباط متحدون © 2004 - 2011 www.copts-united.com