من السطر الأول، أحدد هدف المقال.
إنى أدعو صادقاً إلى اختصار كلمات المسؤولين والرسميين من وزراء ومحافظين إلى النصف، وبعبارة أخرى حذف اللغو والاستغناء عن المقدمات الطويلة والثرثرة بلا طائل، أدعو إلى الدخول فى الموضوع وإنقاذ الوقت من الإسراف. صحيح، نحن شعوب تحب اللت والعجن ورضعت الخطب العنترية والمطولات، ولكن للزمن الذى نعيشه أحكام. فهذا البلد- مصر- بعبدالفتاح السيسى يسابق الزمن ودون هذا السباق المحموم نتخلف ونقف منكسى الرؤوس على رصيف العالم. وعندما حدد رئيس مصر لمهاب مميش إنشاء القناة الجديدة للسويس بعام واحد فقط، كان يشير إلى أهمية الوقت فى معادلة تفوق الشعوب وازدهار الأمم. ربما كان العسكريون أكثر التزاماً ودقة بعنصر الزمن.
فى ألمانيا- على سبيل المثال- يصل المترو إلى المحطة فى موعد محدد بالدقيقة والثانية، وليست هذه عبارة إنشائية، فقطار المترو يصل حسب جدول مرسوم بالدقائق والثوانى، وفى أغانى الألمان، أغنية عن «الثانية» تقول: «خد قرارك، فالحياة مجموعة ثوان تصب فى نهر الزمن، ولا تتردد، فالتردد آفة الضعفاء»، وإن كان للتكنولوجيا فضل يذكر فهو بلا شك «اختصار الزمن» وما القطارات فائقة السرعة إلا نمط من إنقاذ الوقت من الإسراف. وحين أدعو إلى «المباشرة» فى الخطابات الرسمية فهى دعوة للاستغناء عن شكليات لا تضيف شيئاً، وفى نفس الوقت اختصار الكلمات إذا كان هناك متحدثون كثر.
لقد كنت أحضر مناسبة تطوير مرفق ما ولاحظت أن التطوير بعد خطاب مطول هو تطوير فى المنشآت، وكان من الممكن الاستغناء عن الخطاب بالصورة وذلك بشكل حرفى «كان.. فأصبح»، أما اللت والعجن فهو إسراف للوقت بل «هدر» له. أنا من المؤمنين بأن هدر الوقت هو هدر أموال عامة بشكل ما، فكل دقيقة فى حياة وطن تحسب بالمال. وحين جاء دور مدير المرفق أو المركز أمسك بمجموعة أوراق متناثرة وهات يا قراية، حتى أصابنا الملل والضجر والسأم، وليست هذه الصفات من قبيل المبالغة فقد أرسل الوزير المختص موظفاً من رجاله ينبه «أخينا» إلى ضرورة الاختصار حرصاً على كلمات أخرى، وارتبك الرجل وأنهى خطابه الممل.
حين أدعو للخطابات الرسمية القصيرة فأنا أدعو لمصادرة الملل والضجر والسأم، وهذا يبدو واضحاً فى التثاؤب والاعتراضات التى تقال همسا، وفى انصراف الحاضرين عن الإنصات واللجوء للأحاديث الجانبية.
■ ■ ■
فى المجالس العالمية والدولية، كلمات الأعضاء بتوقيت معين ومحدد وبعده تنطلق صفارة تنبه المتحدث، نعم، لأنهم يدركون أن الوقت هو الكنز المهمل والثروة الضائعة فى شعوب بعينها. لأنهم- فى العالم الأول- انتبهوا أن الوقت مورد من أندر الموارد يمر وينتهى من نفسه، لا يمكن إيقافه ولا يمكن استرداده، ولابد من استثماره والاستفادة منه. إن الوقت مال، وتضييع الوقت هو تبديد ثروة. إن عقارب الساعة هى إشارات لضبط الوقت، وإدارة الوقت تتطلب مهارات سلوكية أهمها قدرة الشخص على الإتيان بالمهم. ذلك أن تحديد الأهداف فى خطبة أو نقاش هو اختصار صحى للوقت والمبادرة لاستثمار الوقت الضائع. إن فى الكرة يحتسب الحكم الوقت الضائع ويضيفه للمباراة، والإدارة الصحيحة للوقت تضيف لزمنك ساعات يمكن استثمارها، فلا قيمة للوقت عند الفارغين، من يصدق أن نصف وقت المصريين ضائع فى المواصلات والمرور؟ لكنها حقيقة مؤلمة وربما ساهمت فى المستقبل (العاصمة الإدارية الجديدة)، أقول ربما، رغم أنى أخشى الانفجار السكانى الذى يهدد أى تخطيط. إن المسؤول الذكى هو الذى يختار أهدافه للحديث دون أن يسردها أمام الحاضرين ويستهلك وقتاً، لذلك أصرخ وأقول: «اختصروا، فقد زهقنا وثثاءبنا وشعرنا بالسأم».
إن المستشار عدلى منصور، رئيس الجمهورية الأسبق، سنّ تقليداً لم يسبقه فيه أحد، وهو الخطب الرئاسية القصيرة التى صدمت الناس فى أول الأمر ثم صارت منهجاً حين يتحدث لناس مصر. أتذكر أنى لم أعرف الملل أو الزهق أو السأم فى خطب عدلى منصور، ولا أذكر أن أحداً انصرف عن متابعته، غير أن الساخر باسم يوسف سخر من طريقة عدلى منصور المتحضرة فى مخاطبة الشعب. أذكر أن باسم يوسف قلّد الأسلوب الرئاسى فى المخاطبة بقوله: «أيها المواطنون السلام عليكم ورحمة الله، وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته»، تصفيق حاد!! وذلك إمعاناً فى قصر الخطبة!! لقد كنت أتصور أن الساخر باسم يوسف الذى يعرف الأمريكان جيداً، سوف يسخر من طول خطبة المسؤول المصرى الطويلة والمليئة بالأخطاء النحوية التى تدعو إلى الملل والتثاؤب وكثير من السأم، ويكشف لنا كم نهدر وقتنا فى الخطب والجدل البرلمانى منتفخى عروق الرقبة!
نحن شعوب تربينا على عادات وطقوس خاطئة، مثلاً تربينا على مجالس الكلام والسمر حتى فى أمورنا الجادة، نحن شعوب تربينا على أن مهارة الدكتور المعالج بكثرة ما يكتب من أدوية على روشتة وش وضهر، نحن ننظر باستخفاف إلى دكتور يكتب اسم دواء واحد، وننظر بدهشة لمسؤول كبير يتلو خطبة قصيرة، إننا نرى خطب المسؤولين بالكم لا بالكيف، من هنا أطلب من الوزراء والمحافظين غير التقليديين أن يغيروا نمط الخطب فى المؤتمرات العامة، يختاروا الأهداف التى تحققت والأهداف التى يصبون إليها، ويضبطوا ما أمكن قواعد اللغة. ربما كانت هذه الخطب المختصرة، التى تخاصم الإطالة، صادمة للناس فى بداية الأمر، ولكن الناس- كما يقول علم الاجتماع- تتعود وتتكيف وترفض الإطالة بلا طائل. أحياناً أقول إن لغتنا العربية الفضفاضة تسمح بالإطالة والتطويل، لكنى أرى أن طول الخطبة قد يحجب عن السامع النقط الجوهرية التى قصدها الوزير أو المحافظ، لا مناص من الاختصار وتحديد الأهداف المرجوة، تعالوا نتكلم عن الحلم والمستقبل بلغة الأرقام لنلقى ترحيباً واحتراماً.
■ ■ ■
إن العالم من حولنا يلهث ويرمح.
إثيوبيا «تبنى» السد فى هدوء ونحن مازلنا «نتكلم» عن السد واستحالة استخدام القوة. بالسقالات العملاقة يبنون.. ونحن بالندوات والتصريحات مشغولون.
أمريكا «تفكر» فى علاج يحسم مرض السكر فى وقت قياسى.. ونحن «نفكر» فى حسم مشكلة القمامة المزمنة.
مازلنا نقف بدهشة وذهول أمام انهيار عقارات الأسمنت المغشوش المخلوط بالضمائر الغائبة. مازلنا نقف بدهشة وذهول أمام غرق معديات النيل كثيفة الأعداد والمبحرة بلا تصاريح. مازلنا نقف بدهشة وذهول أمام مزلقانات الموت فى رحلة القطارات ونعيد ونزيد فى أهمية المزلقانات وكأننا اكتشفنا جديداً. العالم المتقدم فرغ تماماً من هذه المشاكل «الدودية» فهى مجرد ديدان. الدنيا صار لها إيقاع سريع، ومصر للأمانة ما عاد إيقاعها رخواً مترهلاً لأن من يقود البلاد يحاول بأعلى معدلات السرعة أن يقتلعها من تخلف السنين، يريد سرعة خطواتها فلا أقل من تجاوب المسؤول معه فى أى موقع كان، يريد الرجل استثمار الوقت بدلاً من بعثرته. إن أهم برنامج فى أمريكا اسمه «60 دقيقة»، وبرنامج لارى كنج أهم مُحاور فى العالم لا يزيد على ساعة زمن. نحن نعشق السهر والسهراية والسهارى ونسمى هذا «خصوصية مصرية»، ليتنا «نغربل» هذه الخصوصيات، وما يجرى فى حياتنا باسم هذه الخصوصيات هو سرقة للوقت.
أعيدوا «حساباتكم» مع صديق اسمه الزمن، بإمكانه أن يتحول فى لحظة ما إلى.. عدو.
اختصروا المقدمات، اختصروا الإجراءات، اختصروا الخطوات، اختصروا التوقيعات، اختصروا الأوراق، اختصروا.
زهقنا حتى ترف التثاؤب!
نقلا عن المصري اليوم
جميع الحقوق محفوظة للأقباط متحدون © 2004 - 2011 www.copts-united.com