أياً كان الرأى فى قانون الخدمة المدنية، كنا معه أو ضده، أو مع بعضه وضد بعضه، فلا يمكن أن يمر مرور الكرام ما صرح به وزير التخطيط فى الفضائيات عن استمرار العمل بالقانون الذى رفضه البرلمان فى صرف رواتب العاملين، بدعوى أن «رفض البرلمان للقانون لم ينشر فى الجريدة الرسمية بعد». ولا أعلم من أسر للوزير بهذه الحجة. فهى لا تستقيم مع الدستور لأنه لم يشترط نشر قرارات رفض البرلمان للقرارات بقوانين فى الجريدة الرسمية. فالقراءة المنصفة للمادة ١٥٦ من الدستور تكشف عن أنها تعنى بوضوح انعدام القرار بقانون المرفوض بأثر رجعى، إلا إذا رأى البرلمان التعامل مع آثاره على نحو آخر. ولكن ما يثبت تخبط تصريحات الوزراء أن رئيس الجمهورية قد أصدر قراره رقم 76 لسنة 2016 الذى يقر بسقوط قانون الخدمة المدنية (على خلاف ما صرح به الوزير) ويقر بعودة قانون العاملين السابق إلى الحياة.
قد تكون لدى الحكومة صعوبات عملية فى التعامل مع رفض البرلمان لقانون الخدمة المدنية، وهى صعوبات يسأل عنها من اعتادوا استسهال إصدار القوانين فى غيبة البرلمان وفرضها على الناس دون دراسة. ولكن هذه الصعوبات يجب التعامل معها فى إطار احترام الدستور.
نحن نفهم أنه بعد الثورات والقلاقل الاجتماعية يصبح الدستور والقانون قيدين على التعامل مع الآثار الاجتماعية والسياسية التى أنتجتها الثورة، خاصة إذا لم يتم تحقيق أهداف الثورة، أو إذا كانت هناك مقاومة شرسة من قوى بعينها لهذه الأهداف. أحياناً تراودنى أضغاث أحلام أن هذه الثورة تمت بمباركة صامتة من أجهزة نظام مبارك حتى تكون الإطاحة برؤوس نظام شائخ ثمنا لإعادة إنتاج سياساته فى ثوب جديد. ولكنها على أى حال أضغاث أحلام لا دليل عليها.
أقول بصراحة إن القاسم المشترك الذى يجمع بين نظامى مبارك ومرسى والنظام الحالى هو الضيق الرسمى من الحكومة ووزرائها ومسؤوليها بأحكام الدستور والقانون و رغم أن الجميع قد أقسم على احترامهما.
لا ينسى المصريون تعديل الدستور سنة 1980 فى عهد السادات لمد ولايته، وتعديله فى عهد مبارك سنة 2005 لتوريث الحكم لابنه، وإصدار مرسى إعلانه الدستورى، كلها أمور محفورة فى ذاكرتنا. حكى لى أحد رؤساء الجامعات السابقين أن مبارك قد أصدر له قرارا بتجديد ولايته على خلاف القانون وعندما نبهه صاحبنا إلى ذلك، رد الرئيس السابق ساخرا: فليطعن أمام القضاء من يريد فستنتهى ولايتك الجديدة قبل أن يفصل فى الطعن، وقهقه الرجلان. هكذا ينظر من أقسموا على احترام القانون والدستور إلى القانون والدستور: نظرة ضيق وسخرية واقتناص الفرصة للتحلل منهما. تكرار مثل هذه الممارسات وتراكماتهما هو الذى أدى إلى شيوع ثقافة ازدراء القانون وتبعه انهيار وتحلل مؤسسات الدولة ثم إلى سقوط النظام.
الإلحاح على احترام الدولة للدستور والقانون ليس من قبيل سفسطة المثقفين (الأراذل) أو تربص السياسيين الذين لا يجيدون سوى الثرثرة، ولكنه استيعاب درس قاس تعلمه ودفع ثمنه غاليا الشعب المصرى فى تاريخه القريب. الدستور والقانون هما القواعد الضابطة لعمل الدولة والمجتمع، وعكس ذلك يعنى الفوضى والتخبط والتحلل من الضوابط وسير المجتمع كيفما اتفق.
ومن عجب ومن أسف أيضا أننا نشهد فى أداء الدولة المصرية الآن ظاهرتين مقلقتين أشد القلق: أولاهما الضيق بالدستور والقانون، وثانيتهما الضيق بالسياسة والسياسيين. لست مع من يفهمون تصريحاً سابقاً للرئيس حول «طموح الدستور» على أنه ضيق به وتعبير عن رغبة فى التحلل منه. بل فهمت هذا التصريح على أنه إشفاق على الحكومة من تطبيق النصوص الدستورية المتعلقة بتخصيص نسب معينة من الناتج الإجمالى القومى على التعليم والصحة والبحث العلمى فى ضوء ارتباك الموازنة العامة وعجزها، ولكنه يعنى أيضا حفزاً للحكومة على القيام بمسؤوليتها فى إطار الدستور حتى ولو كانت لا تروقنا بعض نصوصه.
ولكن ما يؤرق الكثيرين الآن هو تلك الاستهانة على رؤوس الأشهاد، دون حرج أو استحياء من بعض المسؤولين بنصوص الدستور والقانون، وتلك الخفة فى التعامل معهما.
بدأ الأمر بدعوات متعجلة من ممثلى ما يسمى ائتلاف دعم مصر لتعديل الدستور قبل أن يطبق. وكانت المواد المستهدفة هى تلك الخاصة بسلطات رئيس الجمهورية ومدد ولايته سدادا لما يظنونه عربونا للولاء. فإذا قيل إن هناك نصوصا محصنة من التعديل بنص الدستور نفسه ومنها مدد ولاية الرئيس، قالوا وسنعدل أيضا النصوص التى تحظر التعديل. فيا عجبا!!!
وبدا الأمر كما لو كنا قد استنسخنا مقولة شهيرة عن البرلمان الإنجليزى فى القرن التاسع عشر (إن البرلمان يستطيع أن يفعل كل شىء إلا أن يجعل من الرجل امرأة أو من المرأة رجلا). بل بدا أن برلماننا يريد أن يزيد على ذلك بالتحرر من قيد تحويل الرجال والنساء. ولكن البرلمان الإنجليزى كان قد رفع ذلك الشعار لمصلحة الشعب وحده، أما عندنا فقد أراد برلماننا (الذى اصطنعته لنفسها جهات الأمن وأحزابها) أن يرفع هذا الشعار فى مواجهة الشعب ولصالح السلطة التنفيذية وحدها. والشاهد على ذلك هى تلك السابقة البرلمانية الفريدة بين برلمانات العالم بتكوين ائتلاف برلمانى هدفه دعم السلطة التنفيذية وليس رقابتها. فيا عجباً!!
هذا البرلمان لم يتوقف أعضاؤه عن التصفيق للرئيس فى كلمته الأخيرة رغم ضيق الرئيس المعلن بذلك. وهذا البرلمان هو الذى أعد لائحة تهمش الأحزاب والائتلافات الفاعلة وتضمن الولاء الكامل للحكومة. وهذا البرلمان هو الذى سيوافق، بأغلبية كاسحة، على برنامج الحكومة بعد أيام. وهذا البرلمان هو الذى أدخل الدولة بأكملها فى مأزق دستورى سيهز كيانها مستقبلا عندما وافق على القرارات الرئاسية بقوانين (وبعضها ينطوى على عيوب دستورية موضوعية)، موافقة لم تراع اشتراطات الدستور واللائحة، بما يهدد شرعية المؤسسات بأكملها، ودستورية باقى القرارات بقوانين.. وسنرى.
أما عن الاستهانة بالسياسة، (ودولة بلا سياسة يعنى دولة بلا رؤية) فتتبدى فى التصريحات المتضاربة للوزراء التى أشرنا إليها سابقا، والتصريحات التى صدرت مؤخرا عن رئيس الوزراء بعزم الحكومة على اتخاذ قرارات موجعة لا تحتمل الانتظار. قرارات أقلها زيادة أسعار المياه والكهرباء والنقل وغيرها من مقومات الحياة لفقراء المصريين. غيبة السياسة هنا تعنى غيبة الإحساس بآلام الناس وأوجاعهم، وغيبة توقع ردود الأفعال. السؤال الجوهرى هو: لمن تنحاز الحكومة أو لمن الملك اليوم؟ هل للفقراء أم للأثرياء؟ وهل لدى الحكومة معلومات موثوق بها عن خريطة توزيع الثروة فى مصر ومصادرها؟، وهل تقدر على تنمية اقتصاد مصر بمحاربة الفساد؟ وهل لديها معلومات حقيقية غير ملفقة عن تكلفته؟ وهل لديها خطة لحث الكسالى من العاملين على العمل مقابل أجر حقيقى؟ وهل لديها القدرة على استعادة الأموال المنهوبة؟ إذا كانت إجابة الحكومة بالإيجاب فستجد الأموال التى تنفقها على تعليم حق وعلاج حق وإسكان حق؟ ولا يحق للحكومة أن تمن على الفقراء فى كل حين بالدعم، بل عليها ألا تتلاعب رقميا فى تقدير حجم الدعم، وأن تتذكر أن الفقراء هم أكبر شرائح الداعمين للدولة بالضرائب غير المباشرة، وأن العاملين بالدولة يدعمونها بقبولهم أجورهم المتدنية. فلا الدولة تدفع أجرا كما ينبغى ولا العاملون يقدمون عملا كما ينبغى.
تدبر هذه الأمور هو السياسة التى يأنف النظام من تدبرها، ويعرض عمن يتحدثون عنها، ولذلك أتى ببرلمان ساكت لا يرتفع فيه صوت ولا ينبس بحرف فى أمور السياسة. وليس من السياسة إطلاق يد الأمن للبطش بالمواطنين وقهرهم والتنكيل بهم ولمنظماتهم بدعوى حماية الاستقرار، فالاستقرار لا يتحقق إلا بالعدل.
إن الخطأ الكارثى الذى يقع فيه نظامنا (الذى حظى بتأييد كاسح يتآكل الآن) هو الظن أن مثل هذا البرلمان بمن فيه من مصفقين يمكن أن يوفر له غطاء لتمرير سياسات ظاهرها العدل وباطنها الظلم فى غيبة رؤية شاملة لتنمية المجتمع بتعقيداته. قليل من السياسة، والاحترام للدستور والقانون والإنصات إلى أهل الرأى المجردين عن المصالح، والتصالح مع الشباب صاحب الحق الأصيل فى الثورة، هو الطريق الوحيد إلى صلاح الوطن. التنمية ليست مجرد تعبيد الطرق وتوفير الغاز والكهرباء، بل هى قبل ذلك وبعد ذلك: العدل والحرية.
فالدولة القوية هى الدولة العادلة!!
المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع
جميع الحقوق محفوظة للأقباط متحدون
© 2004 - 2011
www.copts-united.com