حين نهمُّ بترجمة كتاب غربى إلى العربية، تقوم دار النشر العربية، بدفع مبلغ من المال للمؤلف الأصلى، أو وكيل أعماله أو ناشره، ليسمح لنا بالترجمة. فإن كان المؤلف قد مات، يُدفع المبلغ لورثته. ولو مات قبل خمسين عامًا، أو أكثر، تسقط حقوقه المادية لأنه صار ملكية عامة وإرثًا إنسانيًّا، يعبر زمانه ومكانه وقوميته ولغته كتراث عالمى.
هناك مبدأ فى النقد الأدبى اسمه «موت المؤلف»، ابتكره الفيلسوف الفرنسى «رولان بارت». يرى هذا المبدأ أن كل قطعة أدبية، أو رأى أو فكرة، تُعتبر كائنًا مستقلا بذاته منبتُّ الصلة عن مؤلفه، الذى يُعدُّ ميتًا بعد كتابة ما كتب. علينا التعامل مع القطعة الأدبية بعيدًا عن شخص المؤلف. كذلك لا يحقُّ للمؤلف أن يعيد شرح أو تبرير ما كتب، بعد خروج العمل للناس. فالمؤلف بالنسبة لكتابه ميتٌ لا يستطيع الكلام. هنا يصبح العمل الأدبى كائنًا حيًّا، إن كان قويًّا صمد أمام النقد، وعاش وعبر الزمان والمكان وتواترته الألسنُ مدى التاريخ. وإن كان ضعيفًا، تهافت وسقط من تلقاء ذاته ومات فى ذاكرة الناس فما عاد يذكره أحد.
لو تأملنا الفكرتين السابقتين، لضحكنا كثيرًا من قانون، أى قانون، يسجن كاتبًا بسبب رأى قاله أو كتاب ألّفه! الكاتب ينفصل عن رأيه بمجرد قوله. فإن كان الرأى قويًّا صائبًا، عاش وتناقلته الألسن. وإن كان الرأيُ ضعيفًا أو خاطئًا تناساه الناس وسقط من ذواكرهم. أين شخص المؤلف فى كل ما سبق؟ غير موجود لأنه «مات» أدبيًّا. فكيف يُسجن ميّتٌ؟! النصوصُ القوية لا تحتاج عكازًا تتوكأ عليها، ولا تحتاج من يدافع عنها لأنها تصمد بقوتها الخاصة. والنصوص الضعيفة لا تستوجب عقاب من كتبها، لأنها تسقط من تلقاء ذاتها لخوائها وتهافتها. كذلك الأديان، كل الأديان السماوية، مفترضٌ فيها القوة فى ذاتها، دون دفاع أحد عنها. فالله تعالى قادرٌ على حمايتها وحفظها لتعبر الأزمان والأمكنة؛ فتصل إلى آخر بشرىّ يأتى فى آخر الزمان، يعيش فى آخر بقاع الأرض. هنا أتذكّر الكلمة العبقرية التى قالها جدُّ الرسول عبدالمطلب بن هاشم: «للكعبة ربٌّ يحميها». الكتب السماوية هى ميراث البشرية بكاملها. ملكيةٌ إنسانية عامة. ليس لها وكلاء على الأرض يزعمون ملكيتها والوصاية عليها.
ولا هى كتبٌ هشّة تحتاج من يدافع عنها، شأن القطع الإبداعية الركيكة التى يغضبُ مؤلفها إن انتقدها ناقدٌ أدبى فى مقال نقدى (وليس فى ساحة محاكمة). النصوص الدينية تستمدُّ قوتها ليس بسيوف من يزعمون ملكيتها، بل من ديمومتها وقدرتها على عبور الزمن والمكان، ومن فاعليتها فى الارتقاء بأخلاق الإنسان وتربية روحه وعقله. هنا يظهر تهافت ما يسمى «قانون ازدراء الأديان»، الذى أراه أول المتهمين بازدراء الأديان! إذ هو يتّهم الأديان بالضعف والهشاشة، تحتاج إلى «عكاز بشرىّ» تتوكأ عليه لتصمد أمام منتقديها!
الضعيفُ يحتاج السند فيستأجر «بودى جارد» يحميه، ويحمل سلاحًا يذود عنه. بينما القوىّ لا يعبأ بحشد المدافعين لأن قوته نابعةٌ من ذاته. هذا على المستوى الفلسفى النظرىّ. كذلك على المستوى العملى، مَن بوسعه أن يحدد إن كان بهذه العبارة أو تلك ازدراءٌ لهذا الدين أو ذاك؟ عبارة واحدة كتبها كاتبٌ، بوسع قاض أن يزعم أن بها ازدراء لدين ما، بينما يقضى قاضٍ آخر بأنها لا تحمل شبهة ازدراء. الأمر خاضع لنسبية وجهات النظر. وهذا يُدخل الأمر فى ساحة «النقد الفكرى» وليس ساحة القضاء التى تجلُّ وتسمو عن الهوى ووجهات النظر. فهل نترك الأمر على عواهنه ليكتب كلُّ مَن شاء ما شاء دون ضابط ولا رابط؟ بالطبع لا. لهذا رهن الدستور المصرى العقوبة على رأى بأمور ثلاثة: التحريض على العنف، إشاعة العنصرية، الخوض فى الأعراض. لأن ما يجمع بين الأمور الثلاثة السابقة هو أن شخصًا ما سوف يتعرض للخطر أو يتأذى من هذا الرأى الذى قيل أو كُتب. فيما عدا هذا يظلُّ الرأىُ رأيًا يموت إن تهافت، ويحيا إن صحّ. احترموا الأديان ووقروها بإلغاء هذا القانون المخزى المهين للأديان.
نقلا عن المصرى اليوم
المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع
جميع الحقوق محفوظة للأقباط متحدون
© 2004 - 2011
www.copts-united.com