انتقادات أوباما للسياستين البريطانية والفرنسية إزاء ليبيا، وتحميلهما مسؤولية ما آلت إليه الأمور فيها، لا تعفي الولايات المتحدة من مسؤوليتها عن نشر الفوضى والخراب.
يبدو أن الرئيس الأميركي، باراك أوباما، حانق على رئيس الوزراء البريطاني ديفيد كاميرون وعلى الرئيس الفرنسي السابق نيكولا ساركوزي، وقرر أخيرًا كما يقال في المثل الشعبي العربي أن "يبق البحصة"، بتوجيه انتقادات حادة لكاميرون وساركوزي، وصلت إلى حد الخروج عن المألوف في التعاطي الدبلوماسي بين البيت الأبيض وقصر الأليزية و10 شارع دونينغ (مكتب رئيس الوزراء البريطاني)، ففي مقابلة أجرتها معه مجلة "ذي أتلنتيك" وصف أوباما الرئيس الفرنسي السابق بأنه "شخص يبحث عن الظهور"، وفي الوقت ذاته وصف كاميرون بأنه "كان شارد الذهن"، عند تنفيذ قرار الإطاحة بنظام حكم الزعيم الليبي الراحل معمر القذافي.
أقوال الرئيس أوباما جاءت في سياق الرد على انتقادات بريطانية وفرنسية وجهت لكيفية تعامله مع ملف الأزمة السورية، وإحجامه عن التدخل العسكري فيها، ولعل أوباما أراد أن يقول بأنه اتعظ من النتائج التي ترتبت على تدخل حلف شمال الأطلسي في ليبيا عسكرياً لإسقاط نظام حكمة القذافي بالقوة، ومن ثم تخلي الدول المشاركة في العملية العسكرية عن كل التعهدات التي أعطيتها، لاسيما بريطانيا وفرنسا، لمنع نشوء فراغ في البلاد تستغله قوى إرهابية متطرفة، على رأسها تنظيم (داعش)، ونتج عن ذلك دخول ليبيا في دوامة من الصراعات الدموية، مازالت تطحن الليبيين حتى اليوم.
الرئيس الفرنسي الحالي، فرانسوا أولاند، ووزير خارجيته السابق، لوران فابيوس، لم يسلما من انتقادات أوباما، الذي وجه إليهما رسالة غير مباشرة، حين عاب على فرنسا في عهد ساركوزي بأنها حاولت الادعاء بأنها صاحبة النجاح في الحملة الجوية، بينما في الواقع، وفقاً لما قاله أوباما في المقابلة مع مجلة "ذي أتلنتك"، الولايات المتحدة هي من دمرت الدفاعات الجوية الليبية، وبالتالي يجب عدم نسيان ذلك في تقييم التصريحات التي صدرت عن الرئيس الفرنسي ووزير خارجيته السابق بشأن إبداء حماسة كبيرة للمشاركة في تدخل عسكري في سورية.
الكثير من الأفكار والتقييمات عرض لها أوباما في مقابلته، في تفسيره لتراجعه عن التهديد بتوجيه ضربة عسكرية، على خلفية ملف الأسلحة الكيماوية، الذي تم حله على أساس مبادرة روسية، وكذلك في رؤيته لأسباب تفجر صراعات مذهبية، المسؤول عنها حسب ما قاله أوباما الأنظمة الشمولية، التي حاصرت الأنشطة المدنية، بحيث أصبح البديل الوحيد للأنظمة الشمولية المتداعية الطائفية، كونها "المبادئ المنظمة الوحيدة"، بمعنى القوى الأقوى والأكثر تنظيماً، بينما فشلت الأنظمة الشمولية في "توفير الرخاء والفرص لشعوبها".
ولعل النقطة الأهم في تلك الأفكار إقراره بأن قدرات الولايات المتحدة تظل مقيدة في نهاية المطاف، وهناك حدود للمدى الذي يمكن أن تذهب إليه واشنطن لتوفير الحماية لحلفائها في المنطقة، مع استثناء يمكن أن يسجل هنا هو إسرائيل، فالمقصود بالحلفاء والحماية لهم دول الخليج العربية في المقام الأول. وأشار أوباما إلى ضرورة الانطلاق في تقدير أي موقف من المصلحة الأميركية البحتة، التي تتعارض مع الإبقاء على التدخلات العسكرية الخارجية في شكل مفتوح ومتواتر.
يسجل للرئيس أوباما شجاعته في الاعتراف بأن التدخل العسكري للحلف الأطلسي قاد إلى الكوارث التي تعاني منها ليبيا منذ خمس سنوات، وأن دول الأطلسي دمرت ليبيا ونأت بنفسها بعيداً، وخاصة بريطانيا وفرنسا اللتين تزعمتا الحملة في البداية. كما يسجل له تعرية السياستين البريطانية والفرنسية إزاء ليبيا، وعبَّر عن ذلك بالقول: "عندما أتساءل لماذا ساءت الأمور، أدرك أني كنت أثق بأن الأوروبيين بفعل قربهم من ليبيا، سيكونون أكثر انخراطاً في متابعة، الوضع بعد التدخل"، وهو ما لم يتحقق على أرض الواقع، بل تحقق عكسه تماماً، بترك الليبيين يواجهون المصائب التي حلت على رؤوسهم لوحدهم.
نقد ذاتي وللحلفاء يحسب للرئيس أوباما، وهو يعكس حالة ندم يعيشها أوباما، لكنه ندم حيث لا ينفع الندم، فالليبيون دفعوا، ومازالوا يدفعون يومياً، انهاراً من الدماء جراء التدخل العسكري الأطلسي في بلادهم وانهيار مؤسسات الدولة العسكرية والمدنية، وإذا كان أوباما صادقاً في ندمه من واجبه أن يتحمل مسؤولية تصويب أخطاء سياسة إدارته تجاه ليبيا، والعمل بالشراكة مع المجتمع الدولي لمساعدة الليبيين على الخروج من مستنقع الدم، فالندم يكون نافعاً عندما يترافق بأفعال لا أقوال لإصلاح ما يمكن إصلاحه، وأن يتم مد ذلك إلى التعاطي مع باقي الأزمات في سورية والعراق واليمن والسودان، وبالطبع مع القضية الفلسطينية.
جميع الحقوق محفوظة للأقباط متحدون © 2004 - 2011 www.copts-united.com