ينظر إلى المهندس نجيب ساويرس في مصر، ليس باعتباره واحداً من كبار رجال الأعمال فقط، لكن بوصفه مفكراً ليبرالياً مهموماً بالوطن وكيفية تجنيبه ويلات المشاحنات الطائفية التي تنشب بين أبنائه من وقت لآخر.
في حواره مع "إيلاف" يؤكد رجل الأعمال المصري المعروف نجيب ساويرس أنه لن يعتزل عالم "البيزنس" بصفة تامة، ولكن سيخصص 75% من وقته للأعمال الإنسانية. مشيراً إلى أن والدته هي السبب في إتخاذه هذا القرار، بعد أن زرعت فيه هو وأخوته حب الخير ومساعدة الفقراء.
ينفي ساويرس وجود إضطهاد للمسيحيين في مصر، مؤكداً أنهم يعانون تمييزا ضدهم، يتمثل في الحرمان من تولي المناصب القيادية في الدولة أو الإلتحاق بالأجهزة الأمنية والرقابية. وأرجع ذلك إلى خشية الدولة ممن وصفهم بـ"قوى التطرف". كما أوضح أن تحقيق العدل سيقضي على ما في النفوس بين الجانبين المسلم والمسيحي من كراهية وضغينة.
وهنا نص الحوار:
ـ إتخذت مؤخراً قراراً بإعتزال عالم الأعمال والتفرغ للعمل الإنساني، ما دفعك لذلك؟
للأسف الشديد فُهمت تصريحاتي بطريقة خاطئة، إذ لم أقل إني سأعتزل العمل تماماً، بل قلت إني سأخصص جانباً كبيراً من وقتي للأعمال التي يطيب لي تسميتها بـ"الأعمال الثقافية والإجتماعية" والتي أقوم بها حالياً، وأخصص لها حوالى 25 % من وقتي، في حين أخصص 75% لأعمالي، لكن في الفترة المقبلة سأعكس المعادلة وأخصص 75 من وقتي للأعمال الثقافية والإجتماعية، وستحصل مشروعاتي وأعمالي على النسبة المتبقية. أما بخصوص الدوافع، فأستطيع القول إني "زهقت" من مشاكل وصراعات عالم البيزنس، كما أن القيام بتلك الأعمال الخيرية يمنحني شعوراً بالبهجة. هذا فضلاً على أني أعي جيداً أن الأموال لن تغني عني شيئاً في آخرتي، ففي النهاية الجميع سيرقد في قبره، ويهال عليه التراب، لا فرق بين غني وفقير. والعاقل هو من يدرك تلك الحقيقة، ويعلم أنه ليس من المهم أن يترك لأبنائه مالاً كثيراً، بل الأهم أن يترك لهم إرثاً من الأخلاق والمثل والتعليم الجيد. فالقليل من المال الذي يقيهم شر السؤال، أفضل من الكثير الذي يفسدهم. كما أن تخصيص جزء من المال لخدمة الإنسانية يضيف للإنسان ذكرا آخر بعد الرحيل، وقد يشفع له في آخرته، ويخفف عنه جانباً من ذنوبه.
ـ هل قربك الشديد من البابا شنودة الثالث بطريرك الأقباط الأرثوذكس في مصر له علاقة بقرارك؟
ليس لقربي من قداسة البابا شنودة علاقة بقراري هذا، بل أمي هي من لها الفضل في ذلك. فمنذ أن وعيت على الدنيا، أراها تخدم الناس جميعا. وكانت تستيقظ من السابعة صباحاً، وتذهب إلى الفقراء في منطقة الزرايب، وسط الروائح الكريهة، وتحاول مساعدة المريض، وتقف إلى جوار المحتاج. كنت أشعر أنا وأشقائي بضيق، لأنها كانت تتركنا من أجل الآخرين. لكننا فهمنا فيما بعد سمو ما كانت تقوم به. إنها من زرعت فينا حب الخير، وحب مساعدة الناس جميعاً. أما علاقتي بالبابا شنودة فتعود إلى أنه رمز تاريخي، كما كانت لي علاقة طيبة بشيخ الأزهر، وكنت قريباً منه، وأي إنسان يقترب من مثل هذه الشخصيات سيحبهم.
ـ لكن البعض ينظر إليك باعتبارك رجلا علمانيا، ولا يستوي أن يكون لك علاقة وطيدة برجل دين؟
للأسف الشديد، تم اختطاف لفظ العلمانية من المتطرفين وأصحاب العقول المنغلقة. وجعلوه مرادفاً للكفر، وهو كلام خاطئ. فأنا رجل علماني، مؤمن بربنا، وعلاقتي به قوية جداً، وأعترف أن لدي إهمالا في تطبيق الطقوس، لكن ذلك لا ينتقص من إيماني. إني أنادي بفصل الدين عن الدولة، وما يحدث في إيران حالياً يتنافى مع مبادئي كعلماني، إذ أرفض تماماً تولي رجال الدين الحكم، ورغم ذلك فهذا لا ينفي أن الاسلام دين دنيوي أيضاً، إهتم بشؤون الدنيا، فوضع نظاماً للحياة، وجعل أسس التجارة والأعمال ضمن الدين، وتعامل مع ضعف البشر بواقعية، وهو دين يتسم بالواقعية الشديدة، وأقول ذلك ليس من قبيل المجاملة.
ـ قلت إنك ستحاول خلال الفترة المقبلة تخفيف حدة التوتر بين المسلمين والمسيحيين في مصر؟ كيف السبيل لذلك؟
ـ لكن هناك محافظ مسيحي حالياً في محافظة قنا؟
يسعى ساويرس للمساهمة في حوار الأديان
هذا أول محافظ قبطي منذ ما يزيد على العشرين سنة. ونحن لا ننكر أن هناك أمورا جيدة قد حدثت، ومنها مبادرة الرئيس مبارك بجعل يوم 7 يناير إجازة رسمية في البلاد. وكان لهذا القرار تأثير إيجابي "رهيب" على المسيحيين في مصر، ومبعث ذلك أنه طالما أن القبطي يحتفل بالعيد الخاص بالمسلم، فمن الواجب أن يحتفل المسلم بعيده أيضاً. حمل القرار العديد من الرسائل منها، قبول الآخر، التسامح، التأكيد على أخوة المصريين في الوطن. ورغم ذلك ما زال هناك تمييز.
ـ هل واجهت شخصياً مواقف شعرت فيها بالتمييز لكونك مسيحيا؟
أنا شخصيتي لا تقبل التمييز ضدها أو الإضطهاد على الإطلاق. وإذا حاول أي شخص مهما كان اسمه أو موقعه ممارسة التمييز أو الإضطهاد ضدي، "يبقى أمه داعية عليه". أنا من الشخصيات التي تتعامل في الحياة بالمثل الصعيدي القائل "حقي برقبتي". ويجب الملاحظة أن الآخر عندما يمارس الإضهاد أو التمييز ضد أي إنسان، فإن هناك صفات تتوافر في المميز ضده، أخطرها أنه غالباً ما يكون ضعيفاً، ويقبل بذلك. أما أنا فلم ينجح أحد في مصر أو في أي مكان في العالم في ممارسة إضطهاد أو تمييز ضدي، وأي إنسان حاول الإستيلاء على حقي أو الإنتقاص من دوري "لعن اليوم اللي وقعني في طريقه". لأني لا أتعامل بالمبدأ المسيحي القائل "إذا صفعك أحد على الخد الأيمن، فأدر له الأيسر"، بل أتعامل بالمبدأ الإسلامي "العين بالعين والسن بالسن والبادي أظلم".
ـ كيف ترى التراشق بالطائفية الذي وقع مؤخراً بين رموز إسلامية وأخرى مسيحية ـ الدكتور سليم العوا والأنبا بيشوي ـ وهل هو مجرد زلة لسان أم إفشاء لما تضمره القلوب؟
إفشاء لما تضمره الصدور. إلا أنه هناك إختلاف كبير بين ما صدر عن الدكتور سليم العوا، والأنبا بيشوي. وسأقول رأيي بمنتهى الصراحة في تلك القضية، رغم أنه يحمل مخاطرة إتهامي بمناصرة طائفتي، لكن ما سأقوله هو الحق. فالأول أساء للدين المسيحي، والآخر خانه اللفظ أو التعبير. فالأول وهو الدكتور العوا رجل من المفترض فيه أنه مفكر، يتمحص ويبحث في كل شيء قبل أن يتفوه بكلمة قد تمس كيان المجتمع وتهدد استقراره. حيث قرر واقعة غير حقيقية هي تخزين الأسلحة في الكنائس والأديرة، وأفاض واستفاض فيها، وقد خانه التوفيق كإنسان، وكمفكر، وصار من الصعب على الإقتناع بكونه مفكراً، لأنه عندما حاول تصحيح ما وقع فيه من خطأ من خلال مقالات، فعل كما يقول المثل الشعبي "بدل ما يكحلها عماها"، حيث تطاول في مقالاته على قداسة البابا. وهذه المقالات مرفوضة مني كمصري أولاً وكقبطي ثانياً، لأن البابا شنودة رمز لكل المصريين ولا يصح الحديث عنه بمثل هذه الطريقة.
ـ معنى ذلك أنك تدخلت في منع نشر مقالاته في جريدة "المصري اليوم" التي تمتلك أسهماً فيها؟
أنا لا أتدخل في عمل أي رئيس تحرير سواء في جريدة "المصري اليوم" أو قناتي "أون تي في"، لكن لو طلب رأيي في مقالاته ـ الدكتور سليم العوا ـ سأرد "لا أشتريها بشلين" ـ أقل فئة عملة في مصر حالياً وتقريباً غير مستعملة ـ فالمقال مبني على التخمينات والتكهنات، وبدلاً من الإعتراف بأنه قد خانه التوفيق، تطاول على البابا شنودة. وبالتالي أنا غير موافق على نشر تلك المقالات، لكني لم أتدخل في منع نشرها. وأؤيد تماماً رفض "المصري اليوم" نشر مقالاته على صفحاتها، وأتمنى أن تقتدي جميع الصحف بما فعلته، عندما تجد أن هناك موضوعات من الممكن أن تشعل النار في البلد، توقف نشرها فوراً، حتى لا تشتعل الحرائق. علماً أن "الجورنال بتاعنا ده، جورنال ليبرالي ولا نحجر على رأي أحد"، وسبق أن اتهمنا بأننا منارة للإخوان المسلمين، لكن للأسف هناك كثيرون لا يفهمون معنى الليبرالية، وهي أن تقبل جميع الآراء بما فيها التي لا توافق عليها. لكن في حالة ما إذا تضمن أي مقال إهانة أو سبا أو قذفا في حق أي إنسان، يجب منع نشره.
ـ لكن هل معنى ذلك أن الأنبا بيشوى لم يتعرض بالإساءة للإسلام؟
هناك فرق واضح بين ما قاله الدكتور العوا وما قاله الأنبا بيشوى. الأول أقر واقعة خاطئة، والآخر طرح تساؤلاً. أنا هنا لا أدافع عن الأنبا بيشوى، الذي تساءل في محاضرة علمية قائلاً: "لعل الآية القرآنية التي ورد فيها "من قال إن المسيح إبن الله فقد كفر"، أقحمت في عصر عثمان بن عفان من قبل بعض من كانوا يريدون الإيقاع بين المسلمين والمسيحيين". وهناك واقعة تاريخية معروفة أن الخليفة عثمان بن عفان أعاد جمع القرآن من صدور الحفظة. واعترف أنه قد خانه التوفيق في ذلك القول، ويشفع له أنه كان حسن النية. لكن ما كان يجب عليه الخوض في العقائد والنصوص المقدسة، فـ "لكم دينكم ولي ديني". إلا أن ذلك لا ينفي حرية البحث العلمي. وسأسرد واقعة تؤكد أن حرية البحث مكفولة للجميع، وقد شكلت تلك الواقعة شخصيتي. وتتلخص في أني كنت في سن الخامسة عشرة، وفوجئت بأستاذ الفلسفة وكان ألمانياً يدخل الفصل الدراسي، وألقى أمامي بالكتاب المقدس، وقال لي" أريد منك أن تنقد هذا الكتاب بطريقة فلسفية". وقمت بالفعل بتقديم نقد له في عدة نقاط أتذكر منها "كيف تحمل السيدة مريم وهي غير متزوحة؟!"، و"كيف يمشي المسيح على الماء؟!". وقد أبدى الأستاذ سعادته بما توصلت إليه. ولكن إذا كانت حرية البحث تشكل حساسية لدى رجال الدين في الطرفين، فلندعها جانباً.
ـ من وجهة نظرك، كيف السبيل إلى علاج ما في صدور الجانبين من ضغائن؟
يكون العلاج بالرجوع إلى أصل الدين، سواء الإسلامي أو المسيحي. فالدين يأمر بالإحسان للفقير، ورعاية المريض، وإطاعة الوالدين، ونشر المحبة والتسامح والتكافل بين الناس. فمن المهم أن نحب بعضنا بعضا كمصريين. والأهم من كل ذلك، هو نشر العدل بين المصريين، بحيث لا يتم تخطي أي مواطن في الترقية، بسبب دينه المسيحي، وإذا كان هناك شاب أمله في الحياة هو الإلتحاق بجهاز مباحث أمن الدولة، لابد أن تحقق له تلك الأمنية، وألا يحرم منها بسبب دينه. أنا أقول ذلك عن محبة لوطني، وليس عن محبة لطائفتي، لأني لو خيرت بين مصلحة طائفتي ومصلحة وطني، سأختار وطني، فإذا كنا نحن الأقباط لن نحصل على العدل والمساواة إلا على حساب مصلحة مصر، فنحن لا نريده.
ـ في إعتقادك، لماذا تخشى الدولة تحقيق العدل للأقباط ووضعهم في مناصب عليا كما تقول؟
لأن القائمين عليها يخافون من قوى التطرف الموجودة حالياً، حيث يخشون أن يفهم تحقيق العدل للأقباط، وتعيينهم في مناصب عليا، على اعتباره نوعاً من المجاملة والإستكانة، والبعد عن الدين الإسلامي، رغم أن ذلك الدين مبني على العدل.
ـ هل معنى ذلك أن الدولة هشة؟
نعم.
أنا أرغب بالمساهمة في حوار الأديان، على الرغم من أن البعض يفضل استخدام حوار الثقافات، لكني أفضل المسمى الأول. شريطة أن يتمحور الحوار حول ما يجمعنا بعيداً عن الخوض في خصوصيات أو معتقدات كل دين، وأن يتم العمل على تنمية نقاط الإتفاق مثل الإحسان للفقراء ورعاية المرضى. وهناك نقطة اتفاق مهمة جداً تجمع أتباع الإسلام والمسيحية ألا وهي أنهم يعبدون إلهاً واحداً هو الله. لذلك يغضبني جداً أن بعض المغالين في الدين الإسلامي يكفرون المسيحيين، لأنه لا يجب أن يتم تكفير من يعبدون الله، بل من باب أولى أن يكفروا الكفار الحقيقيين الذين لا يعبدون الله.
ـ في إعتقادك، وبصفتك مواطنا قبطيا، هل يعاني المسيحيون في مصر اضطهادا؟
لا يعاني الأقباط في مصر اضطهادا، لأن تلك الكلمة ثقيلة جداً. كانت تتناسب مع ما حدث في العصور الوسطى عندما كانوا يقذفون بالأقباط للأسود والضواري لتأكلهم وهم أحياء. وأذكر في هذا الصدد أنه عندما كانت تحدث عمليات ذبح للرهائن. كنت أجلس مع شقيقي، فسألته: ماذا تفعل لو كنت في هذا الموقف، وتم اختطافك ووضعوا السيف على عنقك، وقالوا لك: إما أن تسلم أو تقطع عنقك؟ فرد هو قائلاً: سأقول لهم أسلمت. وبعد الإفراج عني، أقول لهم على طريقة الأطفال "هييه ضحكت عليكم أنا لسه مسيحي". أما أنا فقلت له إني لن أغير ديني حتى ولو كان الهدف هو الإفلات من قطع الرقبة، إذ وجدت أنها فرصة لكي أثبت لربنا الذي إختار لي ديني أني متمسك به وبديني الذي إختاره لي. ما أريد التأكيد عليه أن ليس هناك اضطهاد في مصر، ولكن هناك تمييز ضد الأقباط.
ـ ما مظاهر هذا التمييز من وجهة نظرك؟
هناك تمييز سلبي ضد المسيحيين في مصر في المناصب العليا في الدولة، فلا يوجد مسيحي يشغل منصب رئيس بنك، أو هيئة عامة، أو رئيس جامعة، وتخلو الأجهزة الأمنية والرقابية من المسيحيين. وليس معنى أن هناك وزيرا أو إثنين مسيحيين في الحكومة أن يتم نفي التمييز. إذ من المفترض أن يكون العدد أربعة أو خمسة وزراء على الأقل. ولو أن تعداد الأقباط 10%، ولدينا 34 وزيراً، فلابد أن يكون هناك ثلاثة وزراء أقباط، ومع ذلك فأنا أرفض مبدأ التنسيب أو الكوتا، وأدعو إلى أن يكون شغل المناصب بالكفاءة. ولكن هل معنى هذا أنه ليس هناك أي مسيحي يصلح لشغل منصب رئيس جامعة، أو لشغل منصب المحافظ؟
المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع
جميع الحقوق محفوظة للأقباط متحدون
© 2004 - 2011
www.copts-united.com