(أما العبيط فهو أنا. وأما جنّتي فهي أحلام نسجتها على مر الأعوام عريشةً ظليلة، تهبّ فيها النسائم عليلة بليلة، فإذا ما خطوتُ عنها خطوة إلى يمين أو شمال أو أمام أو وراء، ولفحتني الشمس بوقدتها الكاوية، عدتُ إلى جنتي، أنعم فيها بعزلتني، كأنما أنا الصقر الهرِم، تغفو عيناه، فيتوهم أن بغاث الطير تخشاه، ويفتح عينيه، فإذا بغاث الطير تفري جناحيه، ويعود فيغفو، لينعم في غفوته بحلاوة غفلته.
أنا في جنّتي السمحُ الكريم الذي ورث الجود عن آباء وجدود. فمن سواي كان أبوه يذبح الجمل والناقة ليطعن كل ذي مسغبة وفاقة؟ ومن سواي إلى حاتم ينتمي، وبهذا العنصر الكريم يحتمي؟ وهل كانت صفاتُ آبائي وأجدادي لتذهب مع الهواء هباء، أم هي تجري في العروق مع الدماء دماء؟ هأنذا أحنو على البائس عطفًا ولا أعطيه؛ وأذوب على المصاب أسى ولا أواسيه؛ وتبّت يدا حاسد يقول إن أصحاب الحاجة عني يستجدون ولا عطاء، والمعوزين أكفّهم تقبض على هواء! فقلبٌ عطوفٌ خير للغفير من قرش إنفاقه سريع. وفؤاد ذائب أبقى له من عون لا يلبث أن يضيع. إني أعوذ بالله من إنسان يفهم الإحسان بلغة القرش والمليم؛ تلك ماديةٌ طغت موجتها على العالم كله، ولولا رحمة من ربي، ورشاد من قادتي، لكنت اليوم في غمرتها من المغرقين. لقد أفقر العالم حول جنتي فلا عطف ولا عاطفة. واستحالت فيه القلوب نيكلا ونحاسا تعرفها بالرنين لأنها لم تعد من لحم ودم! فالقرش والمليم هو معنى الإحسان في الغرب الذميم، الذي غلظت فيه الأكباد، كأنما قدت من صخر جماد. كم جامعة عندهم أنشاها ثري! وكم دارا أعدها للفقير غنيٌّ! كم منهم يلبي النداء إذا ما دعا الداعي بالعطاء! لا، بل إن الغرب المنكود ليسير إلى هاوية ليس لها من قرار إذ هو يسعى إلى محو الفقر محوًا، حتى لا يكون لفضيلة الإحسان عنده موضع! فاللهم إني أحمد أن رضيت لي الإسلام دينا، وجعلت لي الإحسان ديدنا.
أنا في جنتي العالمُ العلاّمة، والحبر الفهامة؛ أقرأ الكف وأحسب النجوم، فأنبئ بما كان وما يكون. أفسر الأحلام فلا أخطئ التفسير. وأعبر عن الرؤيا فأحسن التعبير. لكل رمز معنى أعمله، ولكل لفظ مغزي أفهمه. استفسرني ذات يوم حالمٌ فقال: “رأيتُ- اللهم اجعل خيرًا ما رأيت- رأيتني أنظر إلى كفي، فيغيظني من الأصبع الوسطى طولها فوق أخواتها، ولا أحتمل الغيظ، فآتي من مكتبتي بمبراة ماضية، وأجذُّ منها ما طال، وألقي بالجزء المبتور في النار. وما هو إلا أن أرى شبحًا مخيفًا يخرج من بين ألسنة اللهب، كله أصابع كلها من ذوات الأظفار، حتى لكأنها المخالب، وأخذت تنقبض وتتلوى، وتنبسط وتتحوى، وتريد أن تنال مني لتفتك بي؛ فتملّكني الفزع والرعب والجزع، وكلما اقتربت مني تقهقرت حتى بلغت الجدار. ولم يعد بعد ذلك مهرب ولا فرار. ثم رأيت دمائي تسيل دفاقة من إصبعي الجريح فصحتُ وصحوت.”
فأطرقت قليلا ثم أجبته قائلا: “لقد أضلك الشيطانُ الرجيم فأعوذ بالله من الشيطان الرجيم. وكفارتك صيام عام وإطعام ألف مسكين؛ ولولا أننا نريد بك اليسر لا العسر لكان جزاؤك ما لاقى بروميثيوس عند اليونان فيما تروى الأساطير. فقد أراد الآلهة أن يستأثروا بالعالم ونوره، وأراد بروميثيوس أن يهب الإنسان قبسًا منه، فسرق من الآلهة شعلة العرفان ليهدي بها البشر. وغضب الآلهة لفعلته، فشدوه على جلمود صخر فوق الجبل، وأطلقوا عليه سباع الطير تنهش كبده كل يوم مرة، فكلما انتهشت له كبدًا، بدلاه الآلهة كبدًا أخرى. فأصابع كفك هي الناس من حولك تفاوتت أقدارهم وتباينت أرزاقهم بمشيئة ربك الذي يعطي من يشاء ويحرم من يشاء بغير حساب، والمبراة التي أتيت بها من مكتبتك رمز لضلالك بما قرأت. كأنك فاوست غاص في العالم فأضله العلم ضلالا بعيدًا. وكنتَ كمن باع نفسه للشيطان طمأنينة نفسه لقاء لغو فارع لا يسمن ولا يغني من جوع. ثم حدثتك النفس الأمارة بالسوء أن تُعدّل فيما خلق الله وتبدّل. فكان جزاؤك عذاب الدارين، فعذابك في الدنيا دماء تسيل رمزًا لما أنت ملاقيه من تعذيب في النفس أو في الجسم أو فيهما معًا. وعذابك في الآخرة نار تصلاها وبئس القرار. وسيظل الوحش ذو الأصابع ماثلا أبدًا أمام عينيك شاهدًا عليك بما أحدثته للعباد من فساد، في عالم ليس في الإمكان أن يكون أبدع مما كان. وأما الجدار الذي سد عليك طريق الفرار، فمعناه أن عذابك آت لا ريب فيه، إلا أن تدعو ربك بالمغفرة لعل ربك أن يستجيب لك الدعاء.”
أنا في جنتي الحارس للفضيلة أرعاها من كل عدوان، لا أغض الطرف عن مجانة الماجن. والعالم حول جنتي يغوص إلى أذنيه في خلاعة وإفك ورذيلة ومجون، دعهم يطيروا في الهواء ويغوصوا تحت الماء، فلا غناء في علم ولا خير في حياة بغير فضيلة، دعهم يحلقون فوق رؤوسنا طيرًا أبابيل ترمينا بحجارة من سجيل. فليس الموت في رداء الفضيلة إلا الخلود، إني والله لأشفق على هؤلاء المساكين، جارت بهم السبيل فلا دنيا ولا دين.... )
أهدى المقطع السابق، من مقال “جنة العبيط” للمفكر الكبير زكي نجيب محفوظ، إلى المادة (٩٨و )، غير الدستورية، من قانون العقوبات التي حوكمت بها أنا وغيري من الكتاب والأدباء الذين رفضوا أن يأنسوا لجنّة العبطاء، ونادوا بالرحمة والمساواة والعدل والقيم الرفيعة والعلم والعمل.
مجلة ٧ أيام
جميع الحقوق محفوظة للأقباط متحدون © 2004 - 2011 www.copts-united.com