بقلم: د.حمدي الحناوي
ارتبط الحديث عن البطالة وانخفاض الأجور وارتفاع الأسعار بالمطالبة برفع الأجور، وزيادة دعم أسعار السلع. هذه المطالب تتجاهل أسباب المشكلات، وتقفز فوقها، ولا تزيد فى النهاية عن أن تكون متاجرة بمشكلات الفقراء. جوهر المشكلة هو انخفاض الناتج القومى، وانخفاض إنتاجية العمل. وأى زيادة فى الأجور دون زيادة فى الإنتاج والإنتاجية، وإنتاج الغذاء على وجه الخصوص، تؤدى فقط لمزيد من ارتفاع الأسعار، وإفلاس المنشآت التى يستنزفها عبء زيادة الأجور.
ترتبط إنتاجية العمل بكفاءة الأداء، وهى رهن بتحسن التعليم والتدريب وأخلاقيات العمل، وقد تدهور هذا كله. أما زيادة الإنتاج فترتبط بزيادة الاستثمار، وقد زاد الاستثمار المحلى والأجنبى، لكن جانبا كبيرا منه يتجه إلى بناء مساكن ومنتجعات فاخرة، تتجمد بعدها مزيد من الأموال لشراء تلك المساكن والمنتجعات، واستيراد سلع الرفاهية والسيارات. تتحقق بهذا أرباح للمقاولين والمستوردين والمضاربين على أسعار العقارات، ولا يزيد الناتج القومى أو فرص العمل بنفس القدر. يعمل فى البناء آلاف من العمال، لكن عملهم ينتهى بانتهائه، وتبقى بعد ذلك فرص عمالة ثانوية فى مجال النظافة والخدمة المنزلية وبعض أعمال الصيانة. وتظل العمالة الدائمة فى إنتاج مواد البناء رهنا باستمرار هذا النوع من الاستثمار.
قلب الإنتاج هو الصناعة وهى معاقة، يعطل تطورها أننا لا ننشئ المصانع بل نشتريها، ونشترى معها الخامات والسلع الوسيطة، ولو اشترينا أضعاف ما اشتريناه، فسنظل غرباء على عصر الصناعة. دخول ذلك العصر مشروط بالقدرة على صناعة المصانع، أى تصميم المعدات الصناعية وإنتاجها بعقولنا وأيدينا. وترتبط هذه القدرة بالبحث العلمى، ويسبب نقصها عجز الزراعة أيضا، لأن الصناعة تمد الزراعة بمستلزماتها. وزراعتنا تعتمد أيضا على الرى، وأكبر مشكلاتها الآن نقص المياه. والصناعة والعلم هما أدواتنا لتوفير مصادر جديدة للمياه، وتطوير محاصيل عالية الإنتاجية وأقل استهلاكا للماء.
فى النهاية يتوقف التطور على الإرادة ونفاذ البصيرة ورؤية المستقبل. ويجب ألا نتعلل بنقص الموارد التى يمكن توجيهها للبحث العلمى، فهذا تبرير للتخاذل. نحن نحتاج إلى بحوث تطبيقية لتطوير الإدارة وتطوير أدوات الإنتاج المحلية. وهذا يختلف عن البحوث العلمية الأساسية الهادفة إلى اكتشاف معارف علمية جديدة. يكفينا أن نستخدم المعارف العلمية المتاحة، بجانب التعلم من التكنولوجيا والإدارة الأجنبية. ولن يحدث التطور بقفزة واحدة، بل بسلسلة تحسينات صغيرة فى المهارات والأدوات والمعدات المستخدمة. هكذا حدث التقدم التكنولوجى فى العالم، فى تطور تدريجى هادئ، كانت القفزات فيه انتقالات نوعية سبقتها ومهدت لها مئات أو آلاف من التحسينات الكمية الصغيرة.
المثير أن مصر كانت قد بدأت فيها موجة من ذلك النوع. فى أواخر أربعينيات وأوائل خمسينيات القرن الماضى كانت ورش خاصة فى شبرا الخيمة تنتج ماكينات للنسيج، وفى نفس الفترة تأسست شركة خاصة لبدء إنتاج معدات الغزل، وفى عام 1958 ظهرت أول سيارة مصرية هى السيارة رمسيس. لكن تلك الموجة توقفت بسبب التخبط والجهل السياسى، وسيطرة بيروقراطية الدولة على النشاط الاقتصادى.
اليوم تتجدد محاولات بمبادرة أفراد لديهم الجرأة والطموح، بعضهم ينجح وآخرون يخطئون، إذ يقلدون منتجات وعلامات أجنبية، فيدخلون فى نطاق الغش التجارى بدلا من نطاق الابتكار. والدولة تخطئ أيضا فتصفهم بأنهم مصانع بئر السلم، ولا تحاول دمجهم فى القطاع الرسمى، وربطهم بمراكز للبحث والتطوير.
هذه إشارات لوجود بخار ضاغط داخل نظامنا الاقتصادى يحاول دفعه وتجديد دمائه. ومن هذا المنظور أرى بلادنا مرشحة لنهوض صناعى وعلمى لن يبدأ من الصفر، ويلزمه فقط بصيرة نافذة وجرأة وعقل منظم، بعيدا عن أى مزايدات سياسية.
جميع الحقوق محفوظة للأقباط متحدون © 2004 - 2011 www.copts-united.com