بقلم: ميشيل حنا الحاج
فجأة باتت الدولة الاسلامية عدوة لتركيا، وهي الدولة التي طالما ما تعاونت مع الأتراك فباعتهم النفط وبادلته بالأسلحة، كما أبقت الحدود التركية ولم تزل مفتوحة لمرور المقاتلين القادمين الى الدولة الاسلامية سواء في العراق أو في سوريا. ومع ذلك.. فجأة، بدأت تقع تفجيرات في مناطق تركية نسب بعضها للأكراد، ولكن عددا قليلا منها نسبت مسؤوليته للدولة الاسلامية دون قدرة أحد على التأكد من صحة المسؤول الحقيقي عن تلك التفجيرات التي نسبت جزافا للدولة الاسلامية. والآن بدأت الدولة الاسلامية تقصف مواقع وراء الحدود التركية، فتهبط معظم قذائفهم اليومية على مدينة تركية حدودية هي كلس، مما استدعى قيام أحمد داوود أوغلو، رئيس الوزراء، الى اطلاق التهديد بارسال قوات تركية الى المناطق الحدودية، والتوغل، اذا اقتدى الأمر، داخل الأراضي السورية لاسكات مصادر النيران المشكوك بجديتها أصلا.
فماذا وراء قذائف الدولة الاسلامية التي بدأ الاعلام التركي يركز عليها الآن بشكل واضح تمهيدا لشيء ما يلوح في الأفق، وهو تحقيق الحلم التركي بانشاء منطقة عازلة طالما نادى بها أردوغان منذ اندلاع الأزمة السورية، وذلك بذريعة السعي للحيلولة دول ما اعتبر تهريبا للأسلحة ولمرور المسلحين عبر الحدود التركية، وكأن تركيا عاجزة عن تحقيق ذلك دون حاجة لمنطقة عازلة، وذلك بمجرد اغلاق حدودها في وجه كل شيء أو شخص غير مرغوب في مرورهم عبرها.
المنطقة العازلة كما أرداها أردوغان
وكان المقترح التركي الأول هو انشاء منطقة عازلة داخل الأراضي السورية، وبعمق أربعين كيلومترا، على امتداد الحدود التركية مع سوريا والتي يبلغ امتدادها 950 كيلومترا. فهل يمكنكم أن تقدروا مساحة الأراضي التي كانت ستقتطع من الأراضي السورية وتوضع تحت اشراف تركي؟ بحسابات بسيطة قد تزيد مساحتها على مساحة لواء الاسكندرون الذي انتدبت تركيا في عام 1939... من قبل فرنسا المنتدبة على سوريا، أن تديره مؤقتا ولفترة زمنية يفترض بها أن تكون محددة، فاذا بها تضمه الى أراضي الجمهورية التركية وتعتبره جزءا منها. وها هي عبر مقترح المنطقة العازلة، تسعى بوسيلة أخرى لاقتطاع مزيد من أراضي سوريا، بذريعة أخرى هذه المرة، وهي المنطقة العازلة. ولكن ازاء الرفض السوري لهذا المقترح، والذي رافقه رفض أميركي أيضا، سكتت تركياعن مطلبها ذاك ولكن الى حين، لتعود بمطلب آخر أكثر تواضعا.
فالمطلوب الآن منطقة عازلة بعمق 18 كلم فقط، ولا تمتد على طول الحدود السورية التركية، بل فقط من مدينة اعزاز الى مدينة جرابلس، وكلاهما مدينتين حدوديتين. لكن هذا المقترح لم يلق أيضا قبولا سوريا، أو رضاء أميركيا واضحا. فالمنطقة العازلة التي تريدها أميركا، هي منطقة تشرف عليها قيادة كردية، أي جيش سوريا الديمقراطي الذي يتكون من أكثرية كردية، وقد دربته ورعته الولايات المتحدة.. ومن هنا شرعت تركيا تسعى الى فرضه على أساس آخر وهو الضرورة والأمر الواقع. فالدولة الاسلامية التي كانت صديقة تركيا.. بل حليفتها الى وقت قريب، باتت تقصف تركيا الآن بمدافع المورتر وبغيرها من الوسائل، وعلينا أن ندخل لنقمعها، هكذا قال الأتراك، اذا مضت قدما في ذلك. وهذا ما هدد به صراحة رئيس الوزراء التركي، بل وبدأت ترتفع أصوات من مدينة كلس التي كما يبدو باتت مستهدفة، مستغيثة بالقوات التركية. فاذا كان ثمة امرأة قد صاحت في الماضي (وامعتصماه)، فان سيدة تركية تصيح الآن: (وآردوغناه). وهذا قد يشر باقتراب موعد العملية التركية الكبرى داخل الأراضي السورية، بعد انتظار طويل وتهديد متكرر بتتنفيذها.
ويأتي هذا التهديد في وقت تنشغل فيه سوريا بمعركة حلب القريبة أيضا من اعزاز وجرابلس والمناطق التي تهدد تركيا بالدخول اليها. فهل الدخول التركي هو لاسكات مدافع الدولة الاسلامية التي تقذف مدينة كلس بقذيفتين أو ثلاث كل يوم، وغالبا ما لا تصيب أي منها أهدافا جدية، أم هو لتعزيز موقف المعارضة في مدينة حلب التي لم ينجح بعد التوافق على ادخالها في منطقة التنهدئة، لكون من يقاتل فيها بشكل رئيسي هو جبهة النصرة المنتمية للقاعدة والمصنفة دوليا، بل وبقرار من مجلس الأمن، بأنها ارهابية... تماما كتنظيم القاعدة، وتنظيم الدولة الاسلامية. فهل تريد تركيا التدخل لاسكات مدافع الارهابيين التي تقصف مدينة كلس التركية (في أوقات متباعدة)، أم لتعزز موقف ارهابيين في حلب؟ علما بأن القصف التركي الموصوف بكونه ردا على قذائف الدولة الاسلامية، غالبا (كما ردد البعض) ما يسقط داخل المناطق الحلبية التي تسيطر عليها الدولة السورية.
سيناريو التدخل التركي
وهناك تساؤلات كثيرة تدور حول التهديد التركي بدخول الأراضي السورية، حول ما اذا كان التدخل يقتصر على اسكات مصادر النيران الصادرة من الدولة الاسلامية، أم أنه يشكل بداية تنفيذ السيناريو القديم المتجدد، والمقترن بمشاركة سعودية في ذاك التدخل، الموصوف في ظاهره بكونه تدخلا ضد الدولة الاسلامية (التي تقصف كلس)، وهو في باطنه يسعى لتعزيز موقف الرديف او الشقيق السابق للدولة الاسلامية، أي جبهة النصرة، مما سيؤدي أيضا الى نسف مؤتمر جنيف واحتمالات التوصل الى السلام في سوريا، وذلك في مسعى واضح لمزيد من التأخير انتظارا لوصول (غودو)... أي الرئيس الأميركي الجديد القادم على سحابة من الأحلام الخليجية التركية؟
ولقطع الطريق على التدخل التركي بذريعة اسكات مدافع الدولة الاسلامية التي تقصف كلس، في وقت قد تكون أهدافه الحقيقية، التدخل في حلب القريبة أيضا من الحدود التركية (حيث معبر باب الهوى القريب من مدينة حلب)، كخطوة لتعزيز موقف جبهة النصرة من ناحية، وللشروع بتشكيل المنطقة العازلة بعرض 18 كلم والممتدة بين مدينتي أعزاز وجرابلس.. اضافة لسبب آخر وهو ايجاد المبررات لافشال مؤتمر جنيف نتيجة ظهور وضع جديد يعزز موقف المعارضة على أرض الواقع... واحباطا لهذا وذاك، فقد وافقت كل من سوريا وروسيا على وقف لاطلاق النار في حلب، لكنه وقف لا يشمل جبهة النصرة، مطالبين التنظيمات السورية المسلحة المتحالفة مع جبهة النصرة، بالابتعاد عن مواقع النصرة كي لا تستهدف بطريق الخطأ.
لكن رد المعارضة السورية ممثلا بمنذر ماخوس - عضو الهيئة المفاوضة في جنيف، جاء رافضا لهذا الحل, وتدخل أيضا رياض حجاب المنسق العام للهيئة المفاوضة في جنيف، معربا عن وجهة نظره بصعوبة الفصل بينهما: المعارضة المعتدلة والمعارضة المصنفة بالارهابية. ترى ألم يتوقف السيد حجاب دقيقة واحدة ليفكر بأن رفض فك ارتباط المعارضة المسلحة المعتدلة بجبهة النصرة الموصوفة بالارهابية، انما يعزز الشكوك الروسية بأن المعارضة المعتدلة المصممة على التحالف مع المعارضة الارهابية المتشددة، انما لديها ميول ارهابية متشددة طالما دفعت روسيا للمطالبة بادراجها هي أيضا على قائمة التنظيمات الارهابية؟
ورغم ذلك الرفض لفك الارتباط بين الجهتين، المعتدلة منهما والارهابية، فقد وافقت كل من سوريا وروسيا على وقف لاطلاق النار في حلب يدوم 48 ساعة، يبدأ مع صباح الخميس الخامس من أيار. وجاءت هذه الموافقة رغم قيام جبهة النصرة بقصف عدة أحياء في حلب الغربية التي تسيطر عليها الدولة، وأصابت ضمن ما أصابته، مستشفى في المنطقة الغربية من حلب حيث قتل نتيجة ذلك القصف ببراميل الغاز، 19 مريضا وجريحا يتلقون العلاج فيه.
ولعل هذه الموافقة التي جاءت نتيجة ضغوط أميركية، انما يقصد بها اتاحة الفرصة للتنظيمات المعتدلة لفك ارتباطها، أو ابتعادها عن مواقع جبهة النصرة كي لا تتعرض مواقعها للاصابة بطريق الخطأ. وقد يمكون من أهم أهدافها الأخرى، تذليل الطريق أما عودة مؤتمر جنيف للانعقاد والمقرر له في الثالث عشر من أيار، أي بعد أسبوع من انقضاء تلك الهدنة المعلنة، والتي ربما تكون قابلة للتجديد، بهدف قطع الطريق على تنفيذ السيناريو التركي، (وربما التركي الخليجي)، بالتدخل بذريعة اسكات مدافع الدولة الاسلامية، بينما يسعى التدخل على أرض الحقيقة والواقع، الى قلب الأوراق، وتعزيز موقف جبهة النصرة، وافشال مؤتمر جنيف، اضافة لوضع اللبنة الأولى في طريق انشاء منطقة عازلة تركية، لكن على الأراضي السورية.
ترى لو صدقت النوايا التركية بالرغية في انشاء منطقة عازلة تسعى جادة لمنع مرور السلاح والمقاتلين الى الدولة الاسلامية أو غيرها من التنظيمات التكفيرية، فلماذا لا تنشئها داخل الأراضي التركية... فعندئذ لن يعترض أحد على سيناريو كهذا السيناوريو، خصوصا اذا كتب فصوله أردوغان وأخرجه للشاشة داوود أوغلو.
ميشيل حنا الحاج
مستشار في المركز الأوروبي العربي لمكافحة الارهاب – برلين
عضو في مركز الحوار العربي الأميركي – واشنطن
كاتب في صفحات الحوار المتمدن – ص. مواضيع وأبحاث سياسية
عضو في رابطة الكتاب الأردنيين – الصفحة الرسمية
عضو في مجموعة صوت اللاجئين الفلسطينيين، ومجموعات أخرى
جميع الحقوق محفوظة للأقباط متحدون
© 2004 - 2011
www.copts-united.com