ÇáÃÞÈÇØ ãÊÍÏæä
طباعة الصفحة

حوار لموسيقار الأجيال عمره 31 سنة ينشر لأول مرة: رفضت تلحين أغان دينية رغم أنى تربية مشايخ

| 2016-05-11 10:39:21

هذا الحوار الذى ينشر لأول مرة مع موسيقار مصر الأكبر محمد عبدالوهاب عمره الآن 31 سنة. ولهذا الحوار قصة ينبغى أن نرويها أولا كتمهيد أصيل ولازم. الحوار جرى فى لندن فى صيف العام 1985، ويومها كان عبدالوهاب يقضى إجازته السنوية فى العاصمة البريطانية، وفى جناحه بالفندق العريق كان فى ضيافته كاتب المصريات المقيم فى لندن منذ منتصف الستينيات أحمد عثمان، وبحكم زواج عثمان من نجلاء ابنة الموسيقار مدحت عاصم أقرب أصدقاء عبدالوهاب صارت هناك صداقة بين الكاتب وموسيقار الأجيال، وأصبح بمثابة مرافق لعبدالوهاب فى زياراته الموسمية للعاصمة البريطانية . وفى ذلك الصيف كانت هناك مفاجأة بانتظار عبدالوهاب فى لندن: تمثال بديع له من البرونز نحتته نجلاء مدحت عاصم وأهدته لعبدالوهاب، الذى سر بالتمثال المتقن وصنعته البديعة، وكان مزاج عبدالوهاب فى ذلك الصيف البعيد رائقا وصافيا خاصة بعد تكريم الدولة له ومنحه قلادة النيل.. واستغل أحمد عثمان كاتب المصريات مزاج الأستاذ الرايق وطلب أن يسجل معه حوارا فى قضية كانت تشغله آنذاك: علاقة الموسيقى والغناء بالدين والعبادة، وذهب إليه أحمد عثمان فى جناحه، حاملا مسجله الصغير.

الموسيقار محمد عبدالوهاب

دار الحوار أو قل الدردشة فى حضور الصحفية الكبيرة آمال بكير. ولظروف التنقل بين أكثر من مكان فى لندن تاه الشريط وظنه أحمد عثمان ضاع للأبد، لكنه فوجئ به مؤخرا مختفيا بين أشيائه القديمة، وفى زيارته الأخيرة للقاهرة شرفنى أحمد عثمان بأن أهدانى هذا الكنز الذى يحكى فيه عبدالوهاب ذكريات خاصة جدا من حياته، كما يفجّر عددا من آرائه السياسية التى لم يكن يستطيع أن يعلنها فى أحاديثه الرسمية.

الموسيقار محمد عبدالوهاب

وبمجرد أن داس أحمد عثمان على زر تشغيل المسجل وبدأ فى حواره مع عبدالوهاب تذكر الموسيقار الكبير مكالمة مهمة عليه أن يجريها مع شخص بالقاهرة، وطلب الرقم لكنه فوجئ بشخص آخر يرد، دخلت الخطوط فى بعضها، وجرب عبدالوهاب مرات وعانى حتى وصل إلى الشخص المطلوب، وبمجرد أن أنهى المكالمة الصعبة لم يستطع أن يكتم غيظه من سوء حالة التليفونات فى مصر، وراح يعلق ودخل فى وصلة نقد قاسية تخلى فيها عن دبلوماسيته الشهيرة، وقال: «التليفونات عندنا بشعة..من كام يوم قابلت الوزير سليمان متولى فى مناسبة كده، فجه ناحيتى يعرفنى بنفسه، قلت له: أهلا أهلا بوزير التليفونات المتنيلة على عينها.. قال لى وهو بيضحك: أنا بتاع الطرق والنقل ماليش دعوة بالتليفونات.. قلت له: بس ده لا يمنع إن التليفونات عندنا متنيلة بستين نيلة.. للأسف الحكاية عندنا ماشية كلام فى كلام.. كلام طنّان وخلاص بدون رؤية ولا إنجاز حقيقى.. يعنى عندك عبدالحميد رضوان وزير الثقافة.. أى نعم هو وزير كويس وأحسن من اللى جم قبله.. الناس هللوا لما عمل تخفيض فى سعر الكتاب.. إذا كنا فى بلد أمى، طيب مش قبله تعلموا الناس تقرا وتكتب.. عندنا شعب نسبة الأمية فيه 70%، طب أنا أعلم دول الأول وبعدين أفكر فى سعر الكتاب، وأعمل مستويات من الكتب، زى الموسيقى كده، فيه ناس ممكن تسمع سيمفونية لبيتهوفن وتتذوقها، وناس تسمع موسيقى أقل، وناس تروح شارع الهرم علشان تسمع عدوية..».

الموسيقار محمد عبدالوهاب

ويواصل عبدالوهاب نقده اللاذع: «محتاجين شجاعة.. البلد دى لن تتقدم إلا بقرارات شجاعة لتغيير القوانين والسياسات.. يعنى عندك الحكاية بتاعة التعليم المجانى فى الجامعة، دى كارثة من كوارث الدهر عملها عبدالناصر.. كارثة فعلا ومحدش قادر يتكلم.. يعنى الرجل اللى قال إن التعليم كالماء والهواء، الدكتور طه حسين لما كان وزير معارف فى حكومة الوفد، طالب بأن مجانية التعليم تكون لغاية الدراسة الثانوية، وجه عبدالناصر علشان يتملق الجماهير عملها فى الجامعة.. ترتب عليها انهيار فى الخدمات المهنية.. كله عايز ياخد شهادة فالمهنيين اختفوا.. أنا عندى طباخ عنده 9 عيال، كل واحد فيهم واخد بكالوريوس، أبوهم بيقبض منى 150 جنيه فى الشهر، وأولاده مرتبهم 40 جنيه.. كل الحكاية إن معاه شهادة عليا.. يا فرحتى! من أيام كده كنت فى مجلس الشورى، رحت قبل الجلسة وعديت على صبحى (يقصد د. صبحى عبدالحكيم رئيس مجلس الشورى وقتها وكان عبد الوهاب عضوا فيه بالتعيين) لقيت عنده وزير التربية.. اسمه مصطفى كمال حلمى.. رجل مهذب قوى ينفع تشريفاتى من فرط أدبه الجم.. قعدنا نتكلم فى مشاكل التعليم، قلت لهم يا ناس ما تعملوا مدارس مهنية تدى شهادات عليا، ما دامت الحتة المعنوية دى بتجرح الجماعة الفقرا والشاب منهم بيتكسف إنه نجار أو حداد أو سمكرى، خلاص اعملوا مدارس مهنية عليا والخريج منهم يبقى زى خريج أى جامعة.. ويبقى معاه بكالوريوس كنوع من الإرضاء المعنوى ويتقبل مهنته ويحبها بدل ما كله عايز شهادة ومبقاش عندنا حرفيين!».

الموسيقار محمد عبدالوهاب

الغناء بدأ من الجامع!

ثم بدأ الحوار الرسمى.. وتكلم أحمد عثمان عن نظريته: فى كل الحضارات العريقة القديمة كان الفن يخرج من المعبد.. وفى عصر النهضة فى أوروبا الموسيقى بدأت من الكنيسة.. وفى الحالة العربية لا يختلف الأمر كثيرا، فالنهضة الموسيقية عندنا بدأت من الجامع وعلى أيدى المشايخ.. وأظن تجربة الأستاذ عبدالوهاب نفسها كده.. يعنى اللى يسمع مزيكتك يلاقى فيها الحتة الروحية دى.. فيها تصوف حتى فى أغانى الحب والعاطفة.. هل توافقنى على النظرية دى؟

ويجيب عبدالوهاب بعد أن يستمع بإنصات:

الموسيقار محمد عبدالوهاب

«الكلام اللى قلته لاشك إنه حقيقة واقعة.. كل الفنون ارتبطت بالأديان والعبادات، وعندنا فى مصر بالذات والعالم العربى بالطبع كان الارتباط ده ضرورى مش مسألة مزاج، كان ضرورة إن الموسيقى تخرج عندنا من الجامع، لأن القرآن كان هو العامل الأهم والمصدر الرئيسى، الخشوع اللى فيه مذهل، والخشوع يعنى إحساس، والإحساس هو روح الفن، لا يوجد فن بدون إحساس وروح ووجدان، علشان كده أنا مؤيد كلامك إن الموسيقى العربية خرجت من الجامع وكان لها ارتباط وثيق بالقرآن الكريم، والدليل على كده إن الجماعة الموسيقيين الكبار عندنا كانوا فى الأصل من مقرئى القرآن، لما نمسك عبده الحامولى اللى بيعتبروه باخ الموسيقى العربية تلاقيه فى الأصل كان مقرئا فى الجامع الأحمدى بطنطا.. عندك الشيخ سيد درويش، كانت نشأته دينية وكان قارئا للقرآن فى بدايته بالإسكندرية.. الشيخ أبوالعلا محمد اللى قدم لأم كلثوم الكثير من ألحانه فى بداياتها كان قارئا للقرآن.. لما تيجى للمسرح المصرى تجد أن عميده الشيخ سلامة حجازى كان شيخا ومقرئا.. فى الملحنين نجد الشيخ زكريا أحمد.. رياض السنباطى وهو واحد من الملحنين المهمين اللى عندنا بدأ كقارئ للقرآن فى المنصورة بس فى الدرى مش قدام الناس وقالى بنفسه إنه اتعلم القرآن.. القايمة طويلة أقولك على مين والا مين.. الشيخ أحمد إدريس.. الشيخ أحمد صابر.. حتى أم كلثوم كان من أبرز المزايا اللى فيها البيان أو الإبانة فى حروفها وهى بتغنى، بحيث أنه لا يشكل عليك أى حرف، كل كلمة تجدها سليمة رصينة وبارزة وتخليك تفهمها بالضبط وكأنها بتجود قرآن.. ما هو التجويد الغرض منه الإبانة، يعنى الآيات توصل للأذن واضحة مبينة.. وده كان بسبب تأسيسها القرآنى.. ولاشك أن القرآن كان مصدرا كبيرا من مصادر تأسيسى أنا كمان كفنان، أنا طالع من جامع سيدى الشعرانى وعشت واتربيت فيه وقرأت القرآن فيه واتخرجت منه، وهوايتى وقتها كانت لا تختلف عن هواية المشايخ، يعنى لم أستمع إلى مطرب أفندى أبدا، كان كل سمعى منحصر فى أصوات المشايخ خاصة الشيخ رفعت والشيخ على محمود والشعشاعى، وكنت أهرب علشان أسمعهم.. وانضربت مرة علقة بسبب الشيخ رفعت!».

علقة مضحكة!

الموسيقار محمد عبدالوهاب

وحكى عبدالوهاب تفاصيل واقعة (العلقة) بطريقته المبهرة فى الحكى:

«كنت مفتون بصوت الشيخ رفعت، ده صوت خطير فعلا، وجه مرة يقرا عند واحد من جيراننا، كان راجع من الحجاز (يقصد الحج) وكان وقتها بيعملوا ليلة كده للى بيرجع من الحجاز، وجارنا ده جاب الشيخ رفعت علشان يقرا فى الاحتفال، وكنت هتجنن علشان أحضر، وكان عمرى وقتها 6 سنين، آجى أدخل الصوان يطردونى لأنه ممنوع دخول الأطفال، طيب أعمل إيه؟! وقتها كان سرادق الحفلة مقسوم جزءين مفتوحين على بعض، جزء للأكل، الضيوف يقعدوا وتيجى صوانى الأكل تتحط قدامهم على لوح خشب، والصينية عليها من خيرات الله: صحون فيها أرز ولحمة وخضار وسلطة ومن كافة شىء.. خطرت فى بالى فكرة فقررت أنفذها فورا.. لمحت راجل عجوز مكحكح عنده ييجى 80 سنة شايل على راسه صينية ورايح يدخلها شادر الأكل، قلت له يا عم هات عنك الصينية أشيلها مكانك، وبدون تفكير راح حاططها فوق دماغى، كانت تقيلة وقعدت أجر رجلى بالعافية وأمنى نفسى إنى أحطها وأتسحب أدخل الشادر اللى فيه الشيخ رفعت.. فضلت ماشى وأول ما دخلت الشادر رحت (متكربس) واقع، والصينية طارت على الناس، وهدومى بقت كلها بامية وأرز، وانضربت ليلتها علقة وباظت الخطة.. فأنا كنت غاوى المشايخ وقتها والحتة دى ظلت معى وتأثيرها مستمر.. وهنا قد يعّن لك سؤال: مادام بتحب القرآن كده ونشأتك دينية وأبوك شيخ وأخوك شيخ ومن عيلة أزهرية.. طيب ليه ما عملتش أغانى دينية زى اللى قدمتها أم كلثوم مثلا.. نهج البردة على سبيل المثال؟

ويجيب عبدالوهاب على سؤاله:

الموسيقار محمد عبدالوهاب

أنا فى الواقع لم يكن عندى استعداد إنى أعمل أغانى دينية بالطريقة التقليدية، يعنى معتمدة فى تلحينها على الدفوف والناى، كل الأغانى الدينية اللى عملناها بما فيها الحاجات اللى لحنها السنباطى للست أم كلثوم كانت قايمة على الشكل التقليدى ده، اللى بيديلك شكل الذكر، وأنا كفنان مش من أنصار التقليدية كنت عايز أعمل حاجة مختلفة ولايزال عندى استعداد إنى أعمل، وعندى حاجة فعلا عايز أعملها سكة تانية، يعنى هعتمد فيها على الآلآت الموسيقية النحاسية مش الدفوف والناى، أيوه أغنية دينية بآلات نحاسية، ما تسألنيش ليه، لأن الفن ما فيهوش ليه، أنا حسيته كده، وأذكر مرة لما عرفت الشاعر على محمود طه وبقينا أصدقاء وأعطانى قصيدة كليوباترا علشان ألحنها، وهو كان رجل على قدر من الثقافة والأدب والإحساس، فاستوقفنى المقطع الذى يقول فيه:

يا ضفاف النيل ويا خضر الروابى

هل رأيتن على النهر فتى غض الإهاب

أسمر الجبهة كالخمرة فى النور المذاب

قلت له: يعنى إيه كالخمرة فى النور المذاب؟ مش فاهم يعنى إيه؟ قال لى بتلقائية: مش يعنى حاجة.. الفن مافيهوش يعنى إيه.. إنما فيه: حلو ولا وحش.. إنت شايف إيه؟ قلت: حلو..قال: خلاص!

الموسيقار محمد عبدالوهاب

ومع التجربة بقيت على قناعة إن الفن (لطشة) لما تحس إن العمل (لطشك) يبقى ده فن حقيقى، لكن تقعد تفسر وتفصفص وإزاى وليه.. لا.. ده بيفقد الفن رونقه وسحره.. سيب الفن ياخدك من غير ما تفكر هو أخدك ليه.. كالخمرة فى النور المذاب.. خلاص ما تسألش!

الموسيقار محمد عبدالوهاب

ففى الأغنية الدينية حسيت إن إحنا قدام دين قوى، ليس فيه خضوع ولا خنوع ولا رهبنة ولا روحانية زيادة، فلازم أعبر عنه بقوة ومن غير دروشة.. الفرق أو الميزة فى ديننا أنه بيقولك ولا تنس نصيبك من الدنيا.. الدنيا ومتعتها لا عيب ولا حرام.. ونبينا (صلى الله عليه وسلم) كان رجل دين ودنيا، يعنى نبى وحاكم ومحارب وزوج وأب.. الدين فى الواقع له تأثير قوى، واللى بيتجه إليه بيحصل له حاجة من أمرين: يا إما يبقى رجل متزمت.. يا يبقى ثائر.. ده حال أغلب اللى اتخرجوا فى الأزهر.. فيه ناس وقفت عند العلم الجامد والتشدد وكل اللى شايفينه الحرام والمكروه.. وفيه ناس رفضت التزمت غير المقبول وغير المعقول وثارت، وكانت الثورة درجات، فيه اللى ثار بعقلانية واعتدال زى طه حسين وعلى عبدالرازق ومصطفى عبدالرازق.. كل دول تخرجوا فى التعليم الدينى، وكان ممكن يبقوا مجرد شيوخ متزمتين ومتشددين زى الباقيين، لكن التشدد ولّد عندهم الثورة على الجمود والموجود.. الثورة بتبقى ساعات ضرورة حتى فى المزيكا.. سيد درويش مثلا كان ثورة كبيرة فى الموسيقى المصرية!

الموسيقار محمد عبدالوهاب مع أولاده

وابتدا المشوار

ويسأل أحمد عثمان:

كيف حدث التحول الكبير فى مسيرة عبدالوهاب من القرآن إلى الغناء؟

ويرد عبدالوهاب:

الموسيقار محمد عبدالوهاب

«فى الوقت ده أنا كنت فى الكتّاب الملحق بمسجد سيدى عبدالوهاب الشعرانى، القطب الصوفى اللى هو جد أبويا، كل يوم الصبح نروح علشان نحفظ القرآن والشيخ يسمّع لنا ما حفظناه.. شوية أولاد قاعدين على الأرض وقدامنا الشيخ قاعد على دكة خشب عاليه زى الشيخ الشعراوى كده.. نفس الشكل تقريبا.. الفرق إن الشعراوى قاعد يشرح القرآن.. إنما الشيخ عبدالعزيز عاشور قاعد يحفظنا ويسمع لنا.. يشاور على طفل قدامه: اقرأ أنت! ولاحظ علىّ الشيخ أننى أقرأ القرآن بطريقة منغمة.. ما أقراش زى العيال بسرعة ولهوجة (والضحى والليل إذا سجى. ما ودعك ربك وما قلى) إنما أنغّم فى القراءة، فكان أول واحد أدرك إنه ييجى منى كمطرب.. وكنا فى فترات الاستراحة فى الكتّاب نقعد نغنى الأغانى اللى كانت منتشرة أيامها، يا أغانى الشيخ سلامة حجازى، يا الأغانى الشعبية اللى كانت معروفة وقتها وكانت كلماتها طريفة زى أغانى عدوية دلوقتى، يعنى مثلا أنا فاكر أغنية منها بتقول: شفتوش على يا ناس / لابس قميص ولباس / وبيلعب البرجاس ع القنطرة!

الموسيقار محمد عبدالوهاب
ولما ظهر الشيخ سيد درويش وذاع صيته بعد ثورة 19 كنا نقعد نغنى الأغانى اللى كان بيلحنها فى مسرحيات الريحانى والكسار.. كشكش بيه والحاجات دى.. فأنا اتشهرت بين الأولاد فى الكتّاب إنى الصييت اللى فيهم.. وفى الحى اللى كنا ساكنين فيه كان ساكن واحد بيشتغل كورس عند فوزى الجزايرلى، وكان عامل تياترو عند سيدنا الحسين التذكرة فيه بعشرة صاغ للدرجة الأولى، والتانية بخمسة، والتالتة بقرش تعريفة، وكان مسمى التياترو بتاعه (دار السلام).. جارنا ده لما سمعنى وأنا بغنى فى الكتاب للعيال راح قال لفوزى الجزايرلى: ده فيه واد صغير صوته كويس قوى.. الجزايرلى قال له: ما تجيبه نسمعه.. جه قال لى: الجزايرلى عايزك.. واتفقنا إنى أقابله بالليل بعد لما أطمن إن البيت كله نام، كان أبويا يصلى العشا وينام وكذلك أخويا الشيخ حسن، وفعلا هربت من البيت لما ناموا ورحت بالجلابية علشان أقابل فوزى الجزايرلى، قال لى غنى، فغنيت قصيدة كانت مشهورة للشيخ سلامة حجازى بتقول: عذبينى فمهجتى فى يديك / وآمرينى فالقلب طوع لديك

الجزايرلى كان لبنانيا، واللبنانيون عندهم الحاسة التجارية عالية قوى، قال لى: اسمع يا شاطر تاخد الخمسة صاغ دى وتخرج تغنى الحتة دى على المسرح؟ أنا سمعت خمسة صاغ وعقلى ذهب، ده كان مبلغ مذهل لعيل مصروفه مليم، وراح مطلع الخمسة صاغ وأعطهالى، وطلعنى بين فصول المسرحية أغنى، وغنيت الحتة من هنا والدنيا اتشقلبت، كنت أول مرة أغنى فيها على مسرح، وعجبتنى الحكاية والفلوس فبقيت كل ليلة أهرب من البيت بعد العشا وأروح أغنى فى الحسين، وكان قريب من باب الشعرية مجرد دقايق مشى، لغاية لما اتعرف على جماعة يعرفوا أخويا الشيخ حسن، راحوا قالوا له إلحق يا شيخ حسن.. أخوك محمد بيروح يسهر ويغنى فى دار السلام.. أخويا حسن لم يصدق فى البداية: ازاى كده.. ده محمد بينام فى البيت من الساعة 9، وقطعا للشك جه الشيخ حسن المسرح وشافنى وأنا بغنى، انتظر لما خلصت وراح رابطنى بـ(سلبة) وجرنّى من سيدنا الحسين على الأرض لغاية البيت، وجسمى اتجرح ودمى سال ولسه فيه علامات فى جسمى من الليلة دى.. راح قال لأبويا وأمى، أمى تعاطفت معايا لكن أبويا زعل ورفض حكاية الغنا، وابتدوا يمنعونى من الخروج ويعملوا على كنترول، لكنى لم أيأس وبدأت أدور على متنفس لهوايتى فى الغنا!

ومن جديد ظهر جارنا اللى بيشتغل كورس عند الجزايرلى وقال لى إنه مسافر مع سيرك يعرضوا فى دمنهور، وحرضنى إنى أهرب معاه، وهربت ورحت دمنهور وأنا لسه عيل.. وأذكر إن الشيخ سيد درويش جه من إسكندرية إلى دمنهور بالصدفة وانت عارف إن دمنهور قريبة من إسكندرية، وسمعنى وأنا بغنى، وفاكر شكله لغاية دلوقتى، كان رجل عريض جدا وطويل وجسم (بكسر الجيم والسين) وراح شايلنى وقال لى بإعجاب: برافو يا واد.. إنت كويس! كنت واد سنكوح بتاع 7 أو 8 سنين، وكان هو نجم والناس كلها تعرفه.. بعدها بدأت العيلة ترضخ للأمر الواقع وتقبل إنى أغنى بس كان لهم شرط، إنى لا أعمل فى أماكن غير كريمة تسىء للعيلة واسم الشعرانى.. نفّس عن فنك بس فى حاجة كويسة.. قعدوا يدوروا لغاية لما لاقوا فرقة اسمها فرقة عبدالرحمن رشدى المسرحية، وكان رجل محامى وناجح وغاوى فن، ولأول مرة فى تاريخ مصر محامى يشتغل بالفن، ولأول مرة تبقى فى مصر فرقة مسرحية طلبة من خريجى البكالوريا، وكان خريج البكالوريا له شنة ورنة وكان الخريج عمره بتاع 20 سنة، ودى كانت أول خطوة من خطوات المسرح المثقف.. وبدأت خطواتى معها فى مسيرة الفن».

وتتبقى ملاحظتان:
1- قطع الحوار جرس التليفون فى جناح عبدالوهاب بالفندق، رد عبدالوهاب بطريقته الأنيقة، كان المتصل أحد المعجبين، شاب مصرى يبدو بسيط التعليم جاء إلى لندن للعمل، وعرف أن عبدالوهاب موجود فى هذا الفندق الإنجليزى فاتصل به من تليفون أحد المقاهى وبجواره أصدقاء له، ورد عبدالوهاب مجاملة المعجب بأحسن منها وتحمل تطفله فى صبر، لكنه لم يستطع أن يكظم غيظه بسبب سؤال لهذا المعجب: إنت عامل إيه يا أستاذ؟ فقد رأى عبدالوهاب أن السؤال غبى وفارغ وبلا مضمون، وراح يعطيه درسا فى الإتيكيت: يعنى إيه عامل إيه؟ إيه السؤال ده؟ فين السؤال أصلا؟ ورغم ضيق عبدالوهاب وحدته فإنه تحمل المعجب إلى النهاية وودعه بكلمات رقيقة، مع أنه كان بإمكانه أن يغلق الهاتف فى وجهه.. أو يفعل كما يفعل أنصاف النجوم الآن، ويطلب من الفندق ألا يحول إلى غرفته أى تليفون مهما كان!

2- فى نهاية الحوار طلب أحمد عثمان من عبدالوهاب التقاط صورة له وهو يقف بجوار التمثال ويحمل الوسام.. وكان رد عبدالوهاب بالنص وكما جاء فى تسجيل الجلسة: تاخد صورة للتمثال ممكن، إنما صورة لحضرتى مش ممكن، لأنى لازم ألبس بدلة، وأنا معنديش استعداد ألبس بدلة، خلينا نتفق تيجى فى وقت تانى تصورنى بعد ما ألبس لك وأتشيك لك وأبقى واد حليوة وأبتسم لك وأعمل اللى أنت عايزة!

(النجومية ليست صدفة ولا ضربة حظ)
فى الذكرى الخامسة والعشرين لرحيل موسيقار الأجيال (رحل فى 4 مايو 1991) مازال عبدالوهاب قادرا على إثارة الدهشة.. وتؤكد سيرته ومواقفه أنه مازال يملأ الدنيا ويشغل الناس!

 

المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع

جميع الحقوق محفوظة للأقباط متحدون © 2004 - 2011 www.copts-united.com