بقلم: د. ماجد عزت إسرائيل
ــ جذور الموسيقى القبطية
إذا رجعنا إلى الماضي الغابر، أو بالتحديد إلى عصور ما قبل التاريخ نستطيع أن نجد لوحات منقوشة من عمل الإنسان الأول، تدل على إنسان تلك العصور قد عرف الموسيقى البدائية، وتشير الصور المنقوشة على جدران المقابر، والآلات الموسيقية التي عثر عليها في"مصر"، على أن المصري القديم كان منذ فجر التاريخ، يميل بطبعة إلى الغناء، والموسيقى ويستخدمها في المناسبات في حياته الاجتماعية وفى العديد من حياته الدينية.
ويمكننا أن نقطع بأن الموسيقى على غرار سائر الفنون وثيقة الصلة بها، كالرقص والتمثيل الإيمائي والشعر والمسرح، تنحدر من أصل ديني، وهى موسيقى عامة يشترك فيها كافة البشر، وتتصف بالبساطة في أصولها وتتميز ببروز قوي في إيقاعها، كما أن طابعها يتسم بالمسحة الدينية ويتصل بطقوس معتقداتهم، ومما يدلنا على ذلك ما ذكره "فيثاغورس" العالم اليوناني الذي جاء إلى"مصر" في عهد الاحتلال الفارسي، أي في القرن السادس قبل الميلاد، من أنه جمع ما وجده في"مصر"من عناصر موسيقية مكنته من وضع نظريته في الموسيقى .
كذلك ذكر "هيرودوت" عندما زار"مصر" في سنة 460 قبل الميلاد، فقرة رقم(79)، أن المصريين ينشدون لحناً حزيناً، هو أقدم الألحان عندهم،وذكر "ديمتريوس الفاليري" نحو عام280 قبل الميلاد، أن كهنة"مصر"كانوا يكرمون آلهتهم في الاحتفالات بالتراتيل، وكانوا يرتلون بالأحرف المتحركة السبعة: واحدًا بعد الآخر على التابع، وكان هذا النوع من الغناء يغني عن استعمال المزمار أو القيثارة، هذا ولا يزال الكثير من الألحان القبطية يرتل بهذه الأحرف إلى اليوم، وكان القدماء المصريون يرون أن طريقة الترتيل بهذه الأحرف يؤدي إلى التعبير عن شعور ديني عميق.
ومع انتشار المسيحية في البلاد المختلفة منذ القرن الأول الميلادي، وبداية بناء وتكوين الكنائس نشأ ــ في كل قطرــ فن موسيقي كنسي ــ تمشي مع النزعة الفنية الموسيقية لكل شعب، وشكل الشعب موسيقاه، بما يتفق مع ذوقه، مستمدًّا ذلك من تقليده .
على أي حال، ترجع جذور الموسيقى القبطية إلى التراث المصري القديم، أو بمعنى أكثر شمولية مثلت الوريث للموسيقى الفرعونية القديمة وأكد ذلك الفيلسوف السكندري اليهودي "فيلون"، الذي عاش في القرن الأول الميلادي فقال:"إن الجماعة الأولى من المسيحيين المصريين اقتبست ألحانًا لعبادتها الجديدة من الأنغام المصرية القديمة، و يوضح ذلك لنا كيف انبثقت الموسيقى الكنسية المصرية من الفن الموسيقى المصري القديم، وسواء أخذوا منها كما هي أو أخذوها منها وأضفوا عليها عمقًا روحيًّا أو لم يأخذوا، فعند بدء المسيحية كان اللحن القبطي مصريًّا لحمًا ودمًا"، ويذكر عالم المصريات الفرنسي الشهير" إيتين دريتون" آخر مدير أجنبي لمصلحة الآثار المصرية قبل أن يتولاها المصريون، أن " مفتاح سر الموسيقى الفرعونية يوجد في طابع أداء الموسيقى القبطية الكنسية المستخدمة في أيامنا هذه".
و بعض الألحان الشائعة إلى الآن في الكنيسة المصرية لا تزال تحمل أسماء بلاد قد اندثرت منذ عهد بعيد، ونذكر على سبيل المثال اللحن "السنجاري" نسبة إلى بلدة سنجار،التي تقع شمالي محافظة"الغربية"، والتي عرفت منذ أيام "رمسيس الثاني"وكانت تحوطها الأديرة في العصر القبطي ، وكذلك اللحن "الأتريبي"نسبة إلى أتريب القديمة، بالقرب من الديرين الأحمر والأبيض بمنطقة"أخميم".
كما أن الموسيقى القبطية في الكنيسة هي بعينها الموسيقى المصرية القديمة ــ احتفظت للأقباط بالأنغام في توقيع الكلمات والمعاني المسيحية، لكن الموسيقى ذاتها فرعونية، ولذلك تعد الألحان القبطية المستخدمة في الكنيسة القبطية أقدم تراث موسيقى مصري شرقي، ومما هو جدير بالذكر أن لحن جولجوثا Golgotha الذي يرتله رجال الدين المسيحي في يوم الجمعة العظيمة بعد صلاة الساعة الثانية عشرة، وهم يدفنون صورة السيد المسيح المصلوب، كوسيلة إيضاح لدفن جسد المسيح بعد موته، هو بعينه اللحن الذي كان يستخدمه الكهنة الجنائزيون في"مصر القديمة"، أثناء تحنيط الجثة ودفنها من حيث الموسيقى لا من حيث الكلمات .
كما أن لحن "بيكثرونوس" ومعناه "عرشك يا الله" والذي ترتله الكنيسة في يوم الجمعة العظيمة هو بعينه نفس اللحن، الذي كان يزف به الفرعون عند موته، حيث كان ينزل من القبر إلى مركب الشمس ليدور مع الشمس في الخلود، والحياة الأبدية .
جميع الحقوق محفوظة للأقباط متحدون © 2004 - 2011 www.copts-united.com