للروائى والسيناريست الكبير الراحل «يوسف جوهر» قصة قصيرة تدور أحداثها فى الزمن الجميل أيام وجود عشش «رأس البر» بشكلها المميز القديم. بطل القصة رجل مسن، أرمل، يذهب بمفرده للمصيف ويستأجر عشة يقيم فيها. ومنذ اليوم الأول لوجوده يلفت أنظار مجموعة من العائلات المصطافة بتودده لهم والتقرب إليهم بلباقة وطرافة حديثه ويجذبهم ببلاغة ورشاقة عباراته الشائقة وحكاياته المسلية ذات الدلالات العميقة والمعانى الساخرة التى استمدها من تجارب السنين وخبرات العمر الزاخر، ويسيطر بشخصيته المبهرة وحبه الفياض للحياة على الجميع ويستولى على عقولهم وأفئدتهم، فيلتفون حوله طول الوقت وهو يحكى لهم عن بناته الثلاث المتزوجات وأزواجهن الذين يمثلون شخصيات متباينة السلوك والطباع، ورأيه الساخر فيهم.. فيتندّر على أحدهم الذى يعمل محامياً رغم أنه «ألدغ» والثانى النهم للطعام رغم نحافته البالغة والثالث المصاب ببارانويا الذات المتورمة.. لكن قصص حب بناته المختلفة لهن قبل الزواج جعلته يرضخ لرغباتهن فى الارتباط بهم رغم عدم اقتناعه لأنه يحترم الحب ويقدسه ويعتبره سر الوجود وجوهر الحياة الزوجية السعيدة، كما أنه رجل ليبرالى يؤمن بحرية الآخر وحقه فى الاختلاف.
وفى يوم من الأيام لا يظهر الرجل على الشاطئ فى الصباح الباكر ليقود مجموعة المصطافين لتدريبات الصباح كما عوّدهم.. يهرعون للبحث عنه، ويجدونه فى عشته يبكى منهاراً ويخبرهم بأنه أُبلغ منذ لحظات عن طريق اتصال تليفونى بفقدان بناته الثلاث وأزواجهن فى حادث سيارة. يستولى الحزن البالغ والذهول عليهم، ويصر عدد كبير منهم على مرافقته فى رحلة العودة لمساندته فى مصابه الأليم وإقامة شعائر الدفن وحضور الجنازة، لكنهم لا يلبثون أن يكتشفوا، وهم يحاورونه، أن قصته مع بناته وأزواجهن مختلقة وأنه أعزب مخضرم لا أولاد له، وأنه فشل فى تحقيق حلم حياته ليصبح مؤلفاً مسرحياً وممثلاً محترفاً يشار له بالبنان، فنسج من خياله تلك الحكايات الوهمية ليمارس موهبته فى الحكى والأداء التمثيلى الذى حُرم منه وإشباع تلك الموهبة.
وحينما يعاود بعد ذلك سرد حكايات أخرى كانوا يستمعون إليه فى فتور واضح ومن قبيل المجاملة ودون شغف حقيقى فى معايشة تقمصه للشخصيات وطريقة وتنوع أدائها.. وانصرفوا فى النهاية عنه عكس حالهم السابق فى حثه على استعادة الكثير من الأحداث وتكرار الكثير من التفاصيل واستعراض تشخيص أنماط الحكاية.
وانتهى به الحال إلى أن أصبح حبيس عشته، وإن كان أحد سكان العشة المجاورة قد ضبطه يمثل موقفاً درامياً لنفسه فى الشرفة.
لا أعرف لماذا تذكرت تلك القصة القديمة وقد هزتنى بعنف تلك المقالة الفياضة بالأسى الإنسانى الشفيف التى كتبها المفكر الكبير «د. جلال أمين» بعنوان «قصص على هامش السيرة».
وهى وإن كان عنوانها لا يكشف عن أكثر من رغبة فى الحكى عن بعض حصيلته من القصص والحكايات التى أثرت فى نفسه تأثيراً قوياً على مدى عمره المديد الغنى بالقصص والنوادر والمواقف والتفاصيل التى يتذكرها دائماً ولا تنمحى من الذاكرة، إلا أنها فى حقيقة الأمر لا تمثل شأناً خاصاً لا يمتد خارج نفسه أو لا يخص غيره، بل إن تلك التفاصيل تشمل أبعاداً نفسية بعيدة الغور، ورؤى فلسفية عميقة المغزى.
ومنذ أن وقعت عيناى على السطور الأولى من المقال شعرت أن ما يسرده أحسه ويمثلنى ويعبّر عن ذاتى كما يعبّر عن ذاته، وأنه من خلال التفاصيل الصغيرة الخاصة يمكن للكاتب الكبير أن يبنى عوالم رحبة تشى بمعان كبيرة تشمل الإنسانية كلها، وتقترب كثيراً من لمس ألغاز لا نملك فك شفراتها تخص النفس الإنسانية، بنوازعها الغريبة، ودوافعها الغامضة.
مدخل المقال، أو ما يسمى فى الدراما بالمقدمة المنطقية، يتحدث فيه «د. جلال أمين» عن أن زوجته وأولاده قد لاحظوا عليه مع تقدمه فى السن أنه يعود المرة بعد الأخرى إلى تكرار وصف حادث حدث له واعتبره طريفاً أو جملة بليغة قرأها فى كتاب أو سمعها من شخص ما وأعجبته، أو إلى وصف منظر فى فيلم أو مسرحية أثر فى نفسه، وأحياناً تكرار نكتة قديمة سمعوها منه من قبل أكثر من مرة.. لاحظوا أيضاً أنه لا يبدو عليه أى خجل عندما يتبين من تعبيرات وجوههم أو حتى مما يقولونه صراحة أنهم سبق لهم سماع هذا عدة مرات من قبل، بل قد يضحك أو يستمر لإكمال ما بدأه، وكأنه يريد أن يروى الحادث أو القصة لنفسه لا لهم، وقد يتحول الأمر إلى ضحك متبادل بينه وبينهم.. ليس بسبب طرافة القصة بل بسبب إصراره على حكايتها من جديد رغم كل شىء.
يقول فى ذلك «د. جلال أمين»: وأظن أن هذه الرغبة القوية التى تدفعنى إلى تكرار الحكاية لأسرتى هو شعورى بأن لكل حكاية مغزى عاماً من المفيد إدراكه وتأمله.. وقد يتعلق بشخصية مهمة ومعروفة ويلقى ضوءاً جديداً عليها، بل يزداد شعورى قوة مع مرور الوقت بأن عدم تدوين ذلك ونشره قد يكون ذنباً لا يُغتفر.
أنا أيضاً يحدث لى ذلك.. أكرر على مسامع أسرتى الأطروفة أو الحكمة أو الموقف أو المفارقة الكوميدية أو الحدث الذى سبق أن عشته، لكن ربما مع فارق بسيط أنى أجتهد بقدر استطاعتى أن يبدو الأداء مختلفاً فى كل مرة مع الاحتفاظ بكل التفاصيل وكأنى ممثل مسرحى يسعى إلى التجديد والابتكار رغبة فى أن يظل محتفظاً بشغف المتلقى، يشده إلى مناطق إبداع متنوعة وآسرة تُبعد عن نفسه الإحساس بالملل أو الرتابة، مع أنه يدرك أن هذا المتلقى لا يحضر العرض كل ليلة ليتابع هذا التطور فى الأداء ويستمتع بتنوعه.. ومن هنا فإن ما ذكره «د. جلال أمين» من أنه يريد أن يروى الحادث لنفسه لا لهم، ينطبق على أنا أيضاً.
أما ما تختلف فيه حالتى عن حالته فهو أن المجاملة التى تتمثل فى مجاراة أسرته له فى الإصغاء وتتبادل الضحك والاستمتاع بما يحكيه رغم تكرار حكايته، هذه المجاملة بدأت فى التقلص، أحسسته فى انصراف ابنتىّ، الأولى إلى العبث بالموبايل والثانية إلى متابعة التليفزيون.
أما زوجتى فقد ابتكرت طريقة طريفة فى إيقافى عن الاسترسال، وهى أن تسرع فى منتصف السرد تماماً إلى مقاطعتى وتكملة الموضوع بسرعة والانتهاء منه بجملة قصيرة موجزة، وهى تلجأ إلى هذا الأسلوب كثيراً إذا ما ضمتنا جلسة مع الأصدقاء، وكأنها تشاركنى الأداء على المسرح وتريد أن تخطف الأضواء منى وتحرق لى المفاجأة التى عادة ما تنتهى بها الحكاية.
ومع تفاقم الأمر فى هذا الاتجاه، عزفت عن لقاء الأصدقاء، وصرت لا أحدّث إلا شخصاً واحداً.. إنه ذلك الذى يجلس فى مواجهتى فى مرآة حجرة نومى.
نقلا عن الوطن
جميع الحقوق محفوظة للأقباط متحدون © 2004 - 2011 www.copts-united.com