بعدما سرق الإخوان ثورة يناير 2011، واستأسد علينا الإسلاميون بعد «غزوة الصناديق» فى 19 مارس، حاصر المتطرفون الكاتدرائية فى مايو، رافعين لافتات تحمل بذاءاتٍ وتطاولا على شخص قداسة البابا شنودة رحمه الله. اشتعل المسيحيون غضبًا، فقام البابا بتهدئتهم خلال عِظته الأسبوعية التالية، وكان عنوانها: «اغفروا»، قرأ فيها ختام الصلاة الربّانية مُناجيًا الله: «اغفرْ لنا ذنوبَنا، كما نغفرُ نحن أيضًا للمذنبين إلينا». هنا هدأ الغاضبون، وسامحوا المتطاولين، حين ذكّر البابا أبناءه بأن غفران الله لهم مرهونٌ بغفرانهم للمسيئين إليهم.
هكذا يفعل الباباوات المتعاقبون على مصر على مرّ العصور. كلما احتدمت الطائفيةُ قاموا بامتصاص غضبة أبناء مصر المسيحيين، وتحويل ذلك الغضب إلى مزيد من المحبة لأشقائهم المسلمين، حين يتذكرون أن كتابهم يأمرهم لا بمحبة الصديق، فتلك بداهةٌ، بل بأن مجاهدة النفس تكمن فى مباركة اللاعن: «أحبّوا أعداءكم، باركوا لاعنيكم، أحسِنوا إلى مُبغضيكم، وصَلّوا للذين يسيئون إليكم ويطردونكم». ثم جاء قداسة البابا تواضروس وسار على نهج آبائه، يعلّم أبناءه كيف يحوّلون الإساءةَ إلى مودة ورحمة. ولكنه أدرك أن العدالة إن غابت عن مجتمع، حُكم عليه بالفناء. لهذا حرص، أثناء كتابة الدستور بيد شرفاء مصر فى لجنة الخمسين، على أن تخرج بنودُه خاليةً من العنصرية الفجّة، عكس دستور الإخوان المخجل السابق، فخرجنا بدستور عادل إلى حدّ ما، فى ظلّ لحظة بعيدة عن التنوير الذى ننشده لمصر. ولكنّا مازلنا لا نستمتع بذلك الدستور غير المُفعّل حتى الآن، لأن القائمين على التشريع لم يستخلصوا منه قوانين حضاريةً جديدة، فضلا عن غياب تطبيق القانون فى مصر، حال سنّها.
لكن الإرهابيين لا يدركون كل ما سبق، لأن فكرة الغفران والتسامح غائبةٌ عن أدبياتهم. لا يستوعب الإرهابىُّ أن القِصاص ورد الإساءة بإساءة مماثلة غير واردين فى أدبيات المسيحىّ، بأمر مباشر من كتابه، فكانت تلك الدائرة الجهنمية المقيتة: الإرهابىُّ يسىء للمسيحىّ، فيسامحه المسيحىُّ ويغفر، فيقابل الإرهابىُّ الغفرانَ بمزيد من السخافة والإساءة. يحدث كلُّ هذا فى ظلّ غياب تطبيق القانون وتكاسل مجلس الشعب عن تقديم طلبات إحاطة حاسمة، وينتهى الحالُ دائمًا بجلسات عُرفية هزلية تُكرّس تأمين المجرم من العقاب، فيُجرم من جديد. وتتكرر الجرائمُ ويضمن مرتكبوها أنهم ناجون بمصافحةٍ بين قسّ وشيخ.
فإن فاض الكيلُ، صمت البابا عن إلقاء عظته، مثل طائر حزين ينزوى لمناجاة الله، ثم يبدأ فى رفع الصلوات مع شعبه طلبًا لمعونة السماء، وهذا ما فعله البابا تواضروس، الأسبوع الماضى، بعد الأحداث الطائفية المخزية فى المنيا وبنى سويف.
ويبقى السؤال: ماذا تفعل إن كنت محلّ البابا فى بلد تتأجج فيه الطائفية يومًا بعد يوم؟، هل تصمت عن ظلم أبنائك، فتُتهَم بالسلبية وتتكرر الجرائم؟ أم تطالب بحقوقهم، فيرميك المتطرفون بتأجيج الفتن؟ يحدث الشىء نفسه معنا نحن الكُتاب المسلمين ناشدى العدالة والتنوير. إن تكلمنا عن حقوق الأقباط المهدرة فى مصر اتُّهِمنا بمعاداة الإسلام، وكأن الإسلام يأمر بالظلم! وإن صَمَتْنا كنا صغارًا أمام أنفسنا، إذ نرى الظلم ولا نناهضه، مخالفين أمر الرسول بأن ننصر أخانا ظالمًا بأن نردّه عن ظلمه.
وظيفةُ البابا يجب أن تكون «روحية» فى مجتمع «آمن». أما أمنُ المواطنين كافة دون تمييز فهو وظيفة القانون و«الداخلية» والبرلمان والحكومة. وظيفة البابا تتعلّق بالمسائل التى تبنى علاقة أبنائه بالسماء، لا بالأرض. علاقتُهم بالوطن قضية أمن قومى يجب أن يتبناها البرلمان والحكومة، وبالتدخل المباشر من الرئيس إن استوجب الأمر، كما فعل الشيخ زايد- رحمه الله- فى الإمارات التى يعيش تحت سمائها فى محبة تامة أبناءُ مئات الجنسيات والعقائد والملل. وبفضل قانون «مكافحة التمييز والكراهية» الذى استنّه الشيخ خليفة، حصلت الإمارات على المركز الأول عالميًّا فى التعايش السلمى بين الجنسيات والطوائف. أحلمُ بأن أرى مصرَ كالإمارات، يحمل كلُّ إنسان عقيدتَه فى قلبه، ويذوبُ الكلُّ فى خدمة وطن صحىّ متصالح.
نقلا عن المصري اليوم
جميع الحقوق محفوظة للأقباط متحدون © 2004 - 2011 www.copts-united.com